طب العراق في عصره الذهبي
نزار السامرائي
في عقد الستينات كان الدكتور عبد اللطيف البدري الحاصل على شهادة FRCS بالجراحة
من المملكة المتحدة، كان عميدا لكلية الطب جامعة بغداد، وكان الدكتور البدري أكاديميا
مهنيا لا تمر من كلية الطب حالة إلا في استحقاقها وكان يرفض أية واسطة للطلبة مهما
كانت صلتهم به لأنه كان يقول إن هؤلاء سيكونون مسؤولين عن حياة المواطنين وسيكونون
واجهة للعراق أمام دول العالم، وفي ذلك الوقت كان الدكتور شامل السامرائي وزيرا للصحة
الذي شهدت مرحلته نموا في مشاريع الصحة على الرغم من ضآلة امكانات العراق المالية حينذاك،
وكان هناك طبيب ثالث هو الدكتور خالد القصاب الجراح الاختصاص، كان الثلاثة رحمهم الله
يتابعون دراستهم كل في ساحة، وعندما نشبت حرب 1948 ترك الثلاثة مقاعد الدراسة وتوجهوا
إلى فلسطين للمشاركة في دعم الجهد الطبي في الحرب.
أعود إلى الدكتور البدري، فقد أصبح لاحقا مستشارا طبيا للشيخ زايد بن سلطان
آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية، وأقام هناك أساس القاعدة الرصينة للخدمات الطبية
في الإمارات، بعد ذلك جاء إلى الأردن ليسهم بدور في النهضة الطبية التي يشهدها الأردن
حاليا، هكذا كنا وهكذا أصبحنا إذ صارت معاهدنا وكلياتنا مثار سخرية القاصي والداني
للأسف الشديد وتقبل في مقاعدها من يستحق ومن لا يستحق مجرد دخول الدراسة الإعدادية،
ليتخرج منها لأنه قريب من فلان أو فلان من رموز العملية السياسية التي أفسدت كل شيء
في العراق.
لكن نهضة العراق في الخدمات الطبية صارت منارا وفنارا لكل الباحثين بعد
ثورة 17 تموز 1968 عدا عن الخبرة والعلاج والدراسة في معاهده التي كانت تتيح لخريجيها
العمل في أرقى المستشفيات في العالم وليس مجرد القبول للدراسات العليا، كانت مستشفيات
العراق ومراكزه الطبية مقصدا لكل قاصد وباحث عن الشفاء من العراق والوطن العربي.
ولم يتوقف الأمر على المستوى العالي من الدراسة أو المنشئات الصحية العراقية
بل تعداها إلى ما هو أهم بكثير وهو مجانية الدراسة الطبية ومجانية خدماتها، فما قيمة
الكفاءة والخبرة إذا استعصت على الفقراء إن لم يحصلوا عليها؟
كان هذا يوم كان العراق عراقا وكان يحتل مكانا مرموقا تحت الشمس ومساحة
معلومة بين الدول والأمم، وحتى أثناء الحصار الظالم الذي فرضته قوى الشر والعدوان بزعامة
أمريكا الشر على بلدنا واستمر 13 سنة فجفف الزرع والضرع، كان هذا سائدا بلا منة على
العراقيين والعرب، وكان العراق هو الذي أسس للعديد من الدول الشقيقة قواعد العمل في
المستشفيات وفي كليات الطب وغيرها من المراكز.
في إحدى سنوات السبعينات سقطت شاحنة بلغارية في الحفرة القريبة من التاجي
والتي تم حفرها لإقامة جسر على الطريق العام بين بغداد والموصل فأصيب سائقها بكسور
وجروح بالغة، وتم نقله إلى مستشفى الطوارئ في الكرخ واقتضت حالته إجراء عملية عاجلة
لربط سائقه الذي كان على وشك أن يبتر لو تأخر في الوصول إلى المستشفى، وبعد أن تماثل
للشفاء ونجحت العملية التي كانت نادرة في تفاصيلها وجديدة على الكادر الطبي في المستشفى،
جاء السفير البلغاري إلى المستشفى وهو يحمل شيكا على بياض لدفع تكاليف العلاج، ولكن
إدارة المستشفى اعتذرت عن أخذه مبينة أن الخدمات الطبية في العراق مجانية، لكن السفير
قال لمدير المستشفى إن السائق بلغاري وليس عراقيا، أخبره مدير المستشفى، أن الأمر ليس
للعراقيين فقط وليس للمقيمين فيه وإنما لمن يمر ويعبر أراضيه على الطرق الخارجية حتى
إذا كانت وجهته لدول الخليج العربي أو أي مكان آخر.
هذا عراقنا الذي نبكيه اليوم بعد أن زحفت إلى شواطئه كل ديدان المستنقعات،
فخربت كل ما وقع تحت يديها وأحرقت الحرث والنسل وأزالت البشر والشجر والحجر فصرنا نتطلع
إلى إرسال أبسط القضايا العلاجية إلى الخارج بعد أن كنا نستقبل المستعصي منها ويكتب
الله على يد الأطباء العراقيين الشفاء للمرضى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق