نحن رهن إشارتك يا جزائر... نشيدنا الوحيد
بقلم الكاتب الجزائري الحاج حكيم هاني
يوما ما في مسيرة تاريخنا الوطني سمعنا أن هناك من ردد (نحن رهن إشارتك يا ماريشال) وكانت سنوات الاحتلال الفرنسي جاثمة على صدر الجزائر رغم ان فرنسا نفسها أضحت تحت الاحتلال النازي الألماني.
كان الماريشال فيليب بيتان Philippe Pétain في الرابعة والثمانين من عمره لمّا اختاره الفرنسيون ليكون على رأس دولتهم سنة 1940 كي " يُنقِذهم"، لأنهم كانوا آنذاك يؤمنون بالمعجزات التي يمكن أن يُحقِّقها رجلٌ لسبب واحد هو أنه كان "مجاهداً". وفي آخر المطاف أسْلم بلاده للمحتلّين إلى درجة أنّ النّشيد الوطنيّ الفرنسيّ الذي أُلِّف سنة 1792 عُوِّض بنشيد وطنيّ جديد يتناسب مع الظرف الجديد بعنوان: " نحن رهن إشارتك يا ماريشال Maréchal nous voilà !". وفي ثنايا هذا النّشيد نجد جملةً لا شكّ أنّها أثّرتْ في بوتفليقة، وهي: " لنرفع رؤوسنا يا فرنسيين Français, levons la tête ! "، التي إذا عبّرنا عنها بالعامّية المغربية صارت: " ارفع راسك يا بّا ".
وقد ولج بوتفليقة بوّابة تاريخ الجزائر مُقتفياً المسار العجيب والغامض الذي تميّز به عهد بومدين. وكانت له حظوة ممتازة عند رئيسه، حيث دلّـلَهُ كالطفل الصغير. وهو اليوم يتحكم في مصير أمّة تعدادها أربعون مليون نسمة، لا دراية لها بأسباب حياة الأمم وموتها، وهو يعبث بمصيرنا مثلما يعبث الصّبيان بِلُعبِهِمْ. فليس الأطفال وحدهم هم الذين يلعبون بلعبهم، لأنّ هناك استعمالا مجازياًّ لكلمة "اللعبة" في مثل قولنا: "السلطة ولُعَبُها". وما يُهمّني أكثر، ليس بوتفليقة، بل لُعبُه التي أُنبِّهُ إلى أنّها لا تتمثّلُ في جحافل المعتوهين والمَرْشِيّين والخدم والمنحرفين التي يُلوّحُ بها أمام أعيننا المُصابة بداء التراكوم، بل تتمثل في بلدنا الشّقيّ، في أعمارنا التي نقضيها في حياة ضنك، وفي مستقبل هذا الوطن الذي لم يعرف مستقبلاً لكنه عاش دوما في أغوار الماضي، حتى صار فجرُهُ سرمداً.
إنّ بوتفليقة قد بلغ مرحلةً مِنَ العمر يُفترضُ فيها أنه يجتهد في الأعمال الصالحة، كي يُكفّر عن ذنوبه السّابقة، لكن رئيسنا ما زال مُتمادياً في إثخان الجزائر، التي منحتْهُ كل شيء، بأعماله الشّرّيرة ومؤامراته وانقلاباته، التي رأينا مؤخرا نموذجاً منها في جبهة التحرير والتجمع الوطنيّ الديمقراطيّ. وإذا اكتفينا بما اقترفه من أعمال شنيعة في المرحلة لثانية من عمره وحدها، وجدْنا أنّه خرق الدّستور سنة 2008 كي يبقى في السلطة احتيالاً وزوراً مدى الحياة، ثُمّ ترشّح لعهدة رابعة وهو يعلم أنه في درجة خطيرة من الإعاقة، مُثْبِتاً أنّه لا يأبه بمصلحة بلاده، وهو الذي طارد الرجال الأكفاء والشرفاء والوطنيين ونَفَاهُمْ من دواليب الدولة، وراح يبحث حثيثا عن كل أصناف المعتوهين وأهل الرشوة والخدم والمنحرفين الذين يُناسبون أسلوبه ومخططاته، ووضع بين أيديهم مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية التي هو بحاجة إليها لتقوية سلطانه حتى يتوفّاه الله، وهو الموعد الذي يبذل كلّ ما بوسعه لتأخيره إلى أبعد حدٍّ ممكن.
وليس مِن الصُّدفة، كما أنّه ليس من قبيل الحظ أو الحادثة الطّارئة إقبالُهُ على تنصيب أشخاصٍ مُعَيَّنين في المناصب الإستراتيجية، والذين يجمع بينهم قاسمٌ مشترك واحد هو المصلحة الشخصية مقابل الوفاء المُطلق، فهناك مؤشرات كثيرة تدلّنا على أنّ البلاد في هاوية سحيقة، وأنّه ليس هناك محاولة لإيجاد حلولٍ للمدى البعيد، بل هي تدابير لتسيير الأوضاع، لما تبقّى من الوقت، ومع ذلك فإنّ التصرّفات الظاهرة توهِمُ بأنّ كلّ شيء على ما يُرام.
ودون أن نخوض فيما لمْ نرَهُ، وفيما قد نكتشفه يوماً؛ ممّا يُحتمل أنْ يكون أخطر مما رأيناه أو عرفناه، وأنْ يكون فيه تفسير ما يجري في أيامنا مِنْ مُناورات، دون الخوض في ذلك كلّه، فإنه يكفي أن نُشير إلى السّرعة التي تُعالج بها العدالة بعض قضايا الرشوة التي تمسّ مسئولين في أعلى المناصب، بعضهم مُعفى من المسؤولية، وبعضهم الآخر في حالة فرار، وهي تُعالجها بشكل لا يمسّ بالمُتّهمين على الإطلاق. وفي هذا الجوّ الذي يشبه المشاهد السُّريالية يظهر أويحي مثل لعبةٍ تلعب بها يدٌ خفيّة، ليؤكّد لنا في وضح النّهار أنّ كلّ شيءٍ على ما يُرام، وأنّ علينا أنْ نُعبّر له عن امتناننا بترديد نشيدٍ على وقع إشاراته كقائد جوق: " نحن رهن إشارتك يا ماريشال !": "، كلّ الأطفال الذين يُحبّونك / ويُقدّسون عهدك / كلّهم من المستجيبين لندائك / نحن رهن إشارتك يا ماريشال ! / ضحّيْتَ بحياتك / وعبقريتك وإيمانك / حتى أنْقذْتَ الوطن / مرّة ثانية / نحن رهن إشارتك يا ماريشال !". ألمْ يكن ديغول على حقّ لمّا قال عن الفرنسيين إنهم " شعب من العجول"؟.
وبمجرّد أنْ ظهر أويحي بادر على جناح السرعة بالكشف أمام وسائل الإعلام على أنّ الجزائريين لا يعرفون عظمة الخطر الذي نجوا منه بقبول بوتفليقة بالترشّح للعهدة الرابعة، رغم حالته الصّحّيّة المُتردِّية. لقد استرجع أويحي أنفاسه التي عُرِف بها كخادم للدولة، وهو يعتزّ بذلك، وكشف لنا عن سرٍّ لم يطّلعْ عليه إلاّ المُقرّبون من "هولك العجيب"« Hulk al-adjib » الذين لم يُريدوا أنْ يكشفوه للشعب تفادياً للمساس بتواضعه الأسطوريّ، والسِّرُّ هو: إنّ بوتفليقة قد استرجع 150% من قدراته الفكرية !. يا سي أحمد، يستحيل استرجاع أكثر من 100% من أيّ شيء لأنّ الاسترجاع يخصّ شيئاً كان بحوزتنا سابقاً، هذا بغضّ الطّرْف عن أنّ الإنسان إذا تجاوز سناًّ مُعيّنة يصبح عاجزا عن الاسترجاع كُلّيةً، وأنّ موت الخلايا يستمرّ بلا هوادة. لكن، وبما أنّنا في بلاد "المعزة التي تطير" ، التي يحتلّ فيها أويحي موقعا هاماّ بين حرس المعبد، فبإمكانه أن يستمرّ في كذبه ما دام في ذلك الموقع. وإذا كنتم تشكّكون في مصداقية ما أقول فليتكلّم بوتفليقة ولْيُتِحْ لنا رؤية هذه الـ 150%.
كان أويحي مستسلماً لاندفاعه المألوف، وهو مقتنع بأنه أعْلم من الآخرين بشؤون البلاد، لأنه اعتاد أنْ يُقيّمَ نفسه، قياساً على الجهلة الذين يُخالطهم، وقد ظهرت عليه أمارات المُغفّلين، أو أنّه كان يريد أنْ يُغالطنا بخصوص الأسباب الحقيقية التي سارع النظام بإسناد بعض المسؤوليات إليه، وهو في كلّ ذلك عاجز عن التمييز بين جمع الصحفيين الذين يُسائلونه وبين بقية الشعب. ولذلك فإنه غالباً ما يرتكب عثرات مُضحكة، وينطق بأكاذيب وأمور غير معقولة. والحقيقة أنّ كلامه كلّه عبارة عن أكاذيب وأمور غير معقولة، مع أنه يظهر بمظهر الجِدّ، وهذا يعني أنه لا يعي ما يقول، وبلغ به الأمر إلى الاعتقاد أنه يكفي أنْ يُعْلن عن شيء في إطار رسميّ كي يكون ذلك الشيء حقيقياًّ.
إنّ جزائريي اليوم لم يكونوا أحياءا منذ ألْفي سنة حتى يُعاتبوا ماسينيسا وسيفاقس على الخلاف الذي نشب بينهما حول الموقف اللازم اتخاذه في الحروب الفينيقية، وهو الخلاف الذي أدّى إلى احتلال بلادنا من طرف الرومان. كما أنهم لا يملكون حيلة إزاء موقف أجدادنا الذين استنجدوا بالأخوين بربروس لصدّ العدوان الإسباني في القرن 16م، ممّا أدى إلى بقاء الحكم التركي في بلادنا إلى أنْ جاء الاستعمار الفرنسي سنة 1830
. لمْ نَكُنْ حاضرين أيام المقاومات الشعبية؛ كي ندعو الأمير عبد القادر والشيخ بومعزة وأحمد باي إلى تنسيق جهودهم في مقاومة العدو، أو ننصح الشيخ المقراني والشيخ ألحداد بجعل جيوشهما تحت قيادة موحّدة كي يتمكّنا مِنْ مُقاومة الجيش الاستعماري الذي كان في حالة وهنٍ بسبب الحرب الفرنسية البروسية.
أمّا اليوم فنحن من الأحياء الحاضرين ونتمتع بالمعافاة والصحة في أبداننا وعقولنا، ومُعظمُنا متعلّم، مُعتزين بشواربنا، مُتْخَمين من كثرة الغاز والبترول، ويُفترض أننا واعون أنه من مصلحتنا أنْ نُحافظ على بلادنا التي لم تُصبحْ لنا وحدنا إلاّ منذ نصف قرن. لكن الواقع أنّنا نشهد بأمّ أعيننا كيف يتمّ القضاء عليها أخلاقياًّ وسياسياًّ واقتصادياًّ، ونحن مستمرون في الاجترار مثل الأبقار التي تنظر إلى القطار المارّ وهي تقضم الحشائش بكلّ هدوء. إنّ حُكْمَ بوتفليقة لن يمُرّ بسلامٍ في تاريخ الجزائر، ونحن الذين سندفع ثمن ذلك غالياً.
إنّ الحالة التي نمرّ عليها ليستْ عاديةً ولا طبيعيّة ولا معقولة. وهذه الفترة التي نعيشها لا تشبه أية فترة أخرى، فهي على الصعيد الداخليّ تُمثّل آخر مرحلة من مرضٍ مُزْمِنٍ أُصِبْنا به عند استقلالنا، ولم يُعالج المرض إطلاقاً. أمّا على الصعيد الخارجيّ فهي بمثابة حصارٍ فعليٍّ وتامّ ضُرِب على بلادنا. والسبب في كلّ هذا هو انعدام الوعي عند نصف الشعب الجزائريّ تقريباً، باستثناء الأطفال والشيوخ، لكن المُتسبّب الأكبر هو تلك الفئة القليلة التي لا تتجاوز بضعة مئات من الأفراد الذين لا يريدون أن ينبشوا ولو بكلمة واحدة.
إنّ أولئك الأفراد كان بإمكانهم، ولا يزالون قادرين على أن يفعلوا شيئا لإيقاف الانزلاق الانتحاري، لكنهم لم يفعلوا شيئاً. بيدَ أنّه حتى ولو تكلّموا فأغلب الظنّ أنّ كلامهم سيُذكّرنا بخطاب الشاذلي بن جديد في سبتمبر 1988، خمسة عشر يوماً قبل الانفجار الذي سيودي بحياة 200000 جزائري، تمّ نسيانهم بسرعة في خضمّ الأحداث. لقد كان خطاب الشاذلي صيحة مُدوّية وموجهة إلى الشعب عندما قال: " لماذا لا يتحرك الشعب؟ ولماذا يقبل بكلّ شيء؟"..
وقد يحتجّ هؤلاء الأفراد القليلين بحجج يصعب دحضها، مثل: ما الفائدة من هذه العشرات من الأحزاب والشخصيات التي لا تُتْقِنُ إلاّ الثرثرة، وتقديم الحوارات، والتوقيع على البيانات، والكشف عن رداءتها وطموحاتها مِن على بلاطوهات التلفزيون دون أنْ تكون لديها أية نظرة عمّا يجب فعله من أجل بناء وطن يطيب فيه العيش، وهي لا تستطيع أن تقوم بفحص حالتنا والكشف عن أدوائها، بل إنها لا تستطيع حتى إعداد برنامج اقتصادي.
إنّ أوساط "الإشعاع الفكري"، إذا لم أكن مبالغاً في هذا الوصف، أي: الأحزاب السياسية، ورجال الفكر، والجامعيين، والصحافة، والطبقات الوسطى، هذه الأوساط كلّها قد تجذّرت في حساباتها فكرة أنّ هناك عدّة "أجنحة" ضاغطة وأنّ "أهل الحلّ والعقد" متعدّدون، وهذا، حسب زعمهم، من أجل الحفاظ على التوازن ومنع الكفة من الميل إلى جهة واحدة.
إنّ النيران مُحيطةٌ بنا من كلّ جانب، لكننا مُستمرون في مُغالطة أنفسنا بقولنا:" ما زالت النار بعيدة عنّا !". ولو بقينا على هذه الحال، وراح كلّ واحدٍ منّا ينتظر المبادرة من غيره، ولا يتحرك حتى يرى نُظراءه يتعرّضون للقمع والسّجن والقتل، فإنّ البلاد ستنهار وستصير لقمة سائغة في أفواه الداعشيين الذين هم ليسوا بعيدين عن حدودنا، والذين تحظى آراؤهم بالرواج والقبول المسبق لدى الكثير من شبابنا المغرر بهم، وآنذاك سنتحوّل إلى عبيدٍ حقيقيين، ومِن الخطأ حراسة الحدود والمجال الجوي لحماية البلاد من داعش لأنّ داعش موجود بيننا ومُتجذّر في تفكير تلك الآلاف من الشباب والصّغار الذين يتحيّنون الفرصة لارتداء الأسود والشروع في القتل والتّمثيل بأجسادنا. ولا فائدة من أكاذيب ماريشالاتنا وادّعاءاتهم، فلقد سبق أنْ أثبتوا فشلهم في تفادي ظهور "الجيا" و"الجيش الإسلامي"، حتى اضطروا إلى التفاوض معهما، ولن نسمح لهم بمغالطتنا مرّةً ثانية لأنّ سوء التقدير ذلك قد كلّفنا 200000 قتيلاً وخسارة عشرات الملايير من الدولارات في الخراب الاقتصاديّ الذي وقع. والمسلسل لم ينته بعدُ...
ومن الخطأ الادِّعاءُ: أنّ الجزائريين " لم يكونوا هكذا في الماضي"، للدّلالة على أنّنا كُنّا في حالٍ أحسن، وأنّ إناءَنا كان يطفح بالصِّفات الحميدة، وأنّنا فقدْنا تلك الصِّفات لأسبابٍ غامضة. كلاّ ! هذا خطأ فادح، وما ذلك إلاّ انطباعات خاطئة وأوهام؛ ذلك أنّ الكذب كان دوما شأننا، وكُنّا دوما ننفُخ أوداجنا لكي نُخفي ضعفنا وفقداننا لكلّ الصّفات الحميدة. كنّا من النحافة بحيث لم نكن نملك إلاّ البترول والغاز. ولو كُنّا ذوي صفات حميدة، لو كُنّا أهل فضيلة ووعي لَمَا حَكَمَنَا هذا العدد الهائل مِنَ الجُحاوات والأغيولات (جمع أغيول في لغة البربر، وهو الحمار) والصّعاليك منذ 1962.
ولقد كُنّا دوماً مصدراً لدائنا، إنهم حُثالتُنا وجُحاواتنا، وكلّ الذين لا يأبهون إلاّ بمصالحهم، إنهم جهلتُنا وعديمو الكفاءة مِن الذين يتصيّدون الفرص للإستيلاء على المناصب. والمُشكلة أنّنا نتراجع ونتقهقر في حين تتجرّأ هذه الفئات وتتقدّم، ونتظاهر بالاحتجاج، مُتكلّمين أو كاتبين في حين يتصرّفون هُمْ حسب رغباتهم، وكُلّما ازدادوا تقدّما وفاعليّةً ازددنا انبطاحاً حتى نستوي بالأرض كي لا نُعرقل مسيرتهم.
نحن نُكبّلُ أنفُسنا بالقوانين، وهُمْ يدوسون عليها بأرجلهم، وإذا صفعونا على الخدّ الأيمن أعطيناهم الخدّ الأيسر لمزيد من الصّفعات. إنّ قوتهم في ضعفنا، وجُرْأتهم في ميوعتنا، وخلاعتهم في حيائنا.
إنّهم مُتكتّلون في مجموعة مُوحّدة لأنّهم قِلّةٌ ولأنّ بين أيديهم إمكانات الدّولة والجماعة، وهي ملكنا في الحقيقة. أمّا نحن فعبارة عن ملايين مُتشرذمة، تسود بينها الفرقة، ولا يربط بينها أي رابط وطنيّ ذي صبغة أخلاقيّة أو ثقافيّة أو سياسيّة. هناك تكتّلات جهويّة، مثلما هي الحال في عين صالح أو غرداية أو في بلاد القبائل، لكن البقية عبارة عن أفراد متفرقين مثل ذرّات الرماد في مهبّ الرّيح. ولقد سبق لي أن وظّفْتُ صورةً استعرتُها من علم الطّبّ: فالجسد عبارة عن وطنٍ بيولوجي؛ ونحن لسنا جسداً أو مجموعة منسجمة من الأفراد، بل نحن خلايا غير ملتحمة لتُشكّلَ جزيْئات، ثُمّ نسيجاً ثُمّ نظاماً عضوياًّ، وأخيراً تصير كياناً يُحركه شعور... لكن ما بإمكاننا تشكيله هو جسد اجتماعي أو وطن بيولوجي.
والمجتمعات تولد بكيفية معروفة: بظهور "الرغبة في العيش معاً" داخل الجماعة التي يطبعها التضامن الغريزي تُجاه خطر عام، والإتحاد في ردود الأفعال ضدّ أيّ خلل يأتي من حُكّام غير قادرين على التسيير أو حُكام فاسدين، مثلما فعل التونسيون والبوركينابيون.
إنّ بناء وطننا على قواعد سليمة، عقلانية، حديثة وديمقراطية، أصبح ضرورةً مُلِحّةً. ولا فائدة من الانشغال بماضينا القريب والبعيد لأنّ المُهِمَّ هو حاضرنا المتردّي ومستقبلُنا المُهدّد. ولِمَنْ يرى أنّ من الصعب إصلاح ما أفسدتْهُ القرون الطِّوال، أقول أنّ الوقت قد حان لاستقرارها إلى الأبد. ولِمَنْ لديه شكوكٌ حول ماضينا أقول: لِنَمْحُ كلّ ذلك بانتفاضة سيكولوجية، كتلك التي قمنا بها في ثورة 1 نوفمبر 1954. أمّا مَنْ قال إنّ الجزائر أُسِّسَتْ على باطلٍ منذ 1962 فإني أجيبه بأنه يجب إعادة بنائها من الأساس. لِنَقُمْ بذلك فوراً، ما دام عندنا بترول وغاز، ولا نؤجّل ذلك إلى الغد؛ لأنّنا سنكون بدون موارد، وسنكون منهاري القوى. يجب ألاّ نؤجّل عمل اليوم إلى الغد؛ لأنّ الوقت كالسيف، والعالم يتحرّك، ونحن نشاهد بأمّ أعيننا انهيار الدول الضعيفة على عتبات أبوابنا، مثلها مثل قصور من رمال.
تلك هي الورشة التي سيتشكّل فيها ضميرنا الجمعيّ والمجتمع الذي سيَسِمُنا. أمّا العمل الجماعي الذي سيُنْجز فهو المصنع الذي سيُجْري عملية تحويل كُلّية لذواتنا التي ستدخل الباب مُدجّنةً، ولن تخرج من المصنع إلاّ وقد تطهّرتْ من أدران الماضي، وتحرّرت من الضمير الفاسد الذي كان ينخر عظامها، ومِن "الفهامة" الموروثة عن عصور الانحطاط، وعن عقلية جُحا.
وإذا حقّقنا هذا الانتصار على أنفسنا، كان الانهزام عند أعداء المجتمع الجزائريّ، وهُمْ أولئك الذين بذلوا في الماضي كلّ ما بوسعهم لمنع هذا المجتمع من البروز، مُجتهدين في إبقائنا في حالة "غاشي" أو جمهرات شعبية أو سُكّان مُستهلِكين.
إنه الجهاد الأكبر في مواجهة نفوسنا، جهادٌ بين الرغبة السافلة في الحفاظ على الامتيازات التي كُنّا نعتقد أننا اكتسبناها برضوخنا وتنازلنا عن كل شيء، وبين صحوة الوعي بأنّ هذه الامتيازات ستذهب في مهبّ الريح عندما تصل البلاد إلى حالة الإفلاس العام والكارثة العظمى.
لقد حان الأوان، بعد انتقالنا من حالة القابلية للاستعمار إلى حالة التّدجين، أنْ نُدشّن المرحلة التي سيكون فيها انتقالنا من التّدجين إلى النهضة، ومن التّبعية إلى بناء وطن على قواعد أخلاقية وثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية جديدة، وطنٌ ككلّ الأوطان الفائزة، الأوطان السائرة إلى الأمام، الأوطان المتجانسة والخالدة.
حان الأوان لنُطالب بالعيش في بلدٍ لا يرضى أنْ يُسْلِمَ أمْرهُ لجناح أو فردٍ مريض في جسده أو عقله، أو مُصابٍ بجنون العظمة، أو به نزوعٌ طبيعيٌّ إلى التّحايُلِ والأعمال الشّيطانية.
ولن يكون شأننا أبداً كشأن الفرنسيين الذين أنشدوا "نحن رهن إشارتك يا ماريشال"، بل إنّ نشيدنا الوحيد سيكون: (نحن رهن إشارتك يا جزائر ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق