في التسوية
السياسية ونظرية الشيخ والخيمة
د. يوسف
مكي
قبل ثلاثة وأربعين عاما، من هذا التاريخ، انشغلت
إدارة الرئيس الأمريكي ريشارد نيكسون، بإعادة ترتيب الأوضاع في منطقتنا العربية، وبشكل
خاص فيما يتعلق بالصراع العربي – الصهيوني، بعد أن وقفت مدافع الحرب، بمعركة العبور
في أكتوبر 1973. وقد كلف الرئيس الأمريكي، مستشاره لشؤون الأمن القومي، هنري كسنجر
للضغط على مختلف الفرقاء للتوصل إلى تسويات، تخدم هدف ترتيب الأوضاع في المنطقة، بما
يتسق والمصالح الأمريكية.
لا يهدف هذا الحديث، لمناقشة، وتحليل الدور
الذي لعبه كيسنجر، في انتقال مفهوم الصراع مع العدو الصهيوني، في عموم المنطقة، من
حال المواجهة إلى حال القبول والاعتراف، بل كيف استخدم كيسنجر مدرسة التحليل النفسي،
للتأثير على القادة العرب، للقبول بالانخراط في المشروع الأمريكي، لتغيير خارطة التوجهات
السياسية بالمنطقة.
أعد كسيتجر نفسه لزيارة المنطقة، إثر توقف طلقات
المدافع، بعد حرب أكتوبر. وضمن برنامجه زيارة القاهرة ودمشق وتل أبيب، لتثبيت وقف إطلاق
النار، واعتماد سياسة الخطوة- خطوة للتوصل إلى تسوية بين الأطراف المتحاربة، عن طريق
توقيع اتفاقيات وانسحابات جزئية. آنذاك، طلب من مستشاريه إعداد تقارير وافية عن مهمته،
وعن الكيفية التي يتعامل بها مع زعماء المنطقة، معتمدة على التحليل النفسي لسلوك القادة
العرب الذين سيلتقي بهم.
وحسب ما أورده محمد حسنين هيكل في كتابه
"أكتوبر 73 السلاح والسياسة، كان ضمن التقارير التي لفتت، واستحوذت على اهتمام
كيسنجر، ووضعها في الملفات التي حملها معه في رحلته، تقريران: الأول، تحت عنوان الشيخ
والخيمة، وتناول الكيفية التي يتم فيها صنع القرار بالوطن العربي، وأشار إلى غياب دولة
المؤسسات. فالقرارات المصيرية هي الغالب بيد شيخ القبيلة، أيا كان اللقب الذي يحمله.
فالقرار تحت سلطة رجل واحد، يسمع من خاصته حكايات تقترب وتبتعد من موضوعات اهتمامه
بشكل أو بآخر، وترتد إلى حكايات يتداخل فيها الماضي البعيد والقريب، لكنها لا تحتمل
أية علاقة مع الواقع المعاش، وعلى هذا الأساس ينتعش فيها الخيال، وتزهو فيها آمال المستقبل،
وتتعزز أحلام اليقظة، وتتحول هزة الرأس إلى مرسوم له قوة القانون.
استخلص كيسنجر من هذا التقرير أن القرار العربي،
كما وصفناه، في يد رجل واحد لا يلتزم إلا بما يروق له. وإذن فإن عليه، لكي ينجح في
مهمته، أن يركز على الشيخ المتربع في وسط الخيمة ولا يضيع وقتا مع غيره من المستشارين.
أما التقرير الثاني فحمل عنوان السوق والناقة،
وتعرض لأسلوب التفاوض العربي، وكيف أنه في معظم الأحيان مزايدات ومناقصات، غير مترابطة.
تأتي على سبيل المثال، إلى البدوي لتشتري منه ناقة، فيطلب مبلغا خياليا يستحيل عليك
القبول به، مستمد من عوالم الأماني والتخيلات، ثم تبدأ المفاصلة والمساومة، وترتفع
الحناجر، ويجري القسم بأغلظ الإيمان، ويتتابع استخدام القسم إثر القسم على جودة البضاعة
وجدارتها بالسعر المطلوب. ورويدا رويدا يبدأ العد التنازلي، وفي كل مرة يجري التنازل،
ينطلق قسم مغلظ أخر، مؤكدا على أن السعر المطلوب هو آخر سعر يتم القبول به، وأن النزول
بعده ظلم كبيرة، ومع ذلك تظل المساومة على أشدها وتستمر التنازلات حتى تصل في خاتمة
المطاف إلى البيع بنصف الثمن الذي بدأت به وأحيانا بربعه.. وفي كثير من الأحيان إلى
لا شيء.
ومؤدى النصيحة التي يوجهها التقرير إلى كيسنجر
أن عليه أن يكتشف من هو الشيخ في الخيمة، ثم عليه بعد ذلك أن يعد نفسه لمساومات لا
ينفذ صبرها في السوق. وقد أضاف كيسنجر إلى هذين التقريرين عبارة اقتبسها من كاتب عربي
جاء فيها أن الفارق بين الفكر الإستراتيجي "الإسرائيلي" والفكر الإستراتيجي
العربي هو أن الذين يمسكون بدفة الحكم في الكيان الصهيوني هم لاعبو شطرنج، أما القادة
العرب الذين ينتظر كيسنجر أن يفاوضهم فهم لاعبو نرد. وفي اللعبة الأولى يستخدم الحساب
وما له علاقة بالقدرات العقلية، أما في اللعبة الثانية، فالاعتماد هو بالمطلق على رمية
الزهر، وهي رمية تعتمد على الحظ في كل الأحوال.
هكذا جرى تعامل النظام العربي في الصراع مع
الصهاينة. فقد رفضوا قرار التقسيم رقم 181 الصادر في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947. وكانت
مبررات الرفض منطقية وقانونية، ودخلوا حربا غير متكافئة في التخطيط والعدد والعدة،
فكانت النتيجة أن تمكن الصهاينة من احتلال المزيد من الأراضي. وبعد حرب تشرين/ أكتوبر
1973 دخلنا الحرب السياسية بذات الاساليب التي دخلنا فيها الحروب العسكرية، وأصبحت
مفاوضاتنا مع الصهاينة لهثا نحو المجهول.
وكان الراعي الأمريكي للتسوية، قد اختار أن
يكون موقعه في الخندق المعادي لآمالنا وأمانينا. ولأننا لم نملك الحول أو القوة قبلنا
بشروطه، وسلمناه مفاتيحنا، على أمل النيل بقليل من العدل والإنصاف، تكشف لنا سرابها.
فكانت مباحثات الخيمة الكيلو 101، فالفصل الأول ثم الفصل الثاني للقوات على الجبهتين
المصرية والسورية، وعند كل خطوة يجري تجريدنا من شيء ما من حقوقنا.. بما يعكس قلة حيلتنا
وضعف مواطئ أقدامنا. واستمر الزحف عاصفا، ووقعنا صكوك اعتذار لمغتضبي أرضنا وأعراضنا
في كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة.
وبلغ الأمر أسوء حالاته، حين تقاتل الفلسطينيون
مع بعضهم البعض، وبات المخطط الصهيوني، يجري تنفيذه بالسلاح والأرواح الفلسطينية. وليس
من حل للخروج من النفق الراهن سوى التسمك بالثوابت والاحتفاظ بالكرامة والأرض، وهي
أمور لا يمكن أن تتحقق إلا بالتلاحم والوحدة، والنأي بعيدا عن توصيفات تقرير كيسنجر،
عن الشيخ والخيمة والناقة، ومراجعة النظام العربي الرسمي لسياساته التي ثبت عقمها وعجزها،
وإعادة الاعتبار للإنسان العربي، باعتباره القيمة المطلقة.
Yousifmakki2010@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق