الثلاثاء، 3 يوليو 2018

وادي العميان بقلم محمود الجاف




بسم الله الرحمن الرحيم

وادي العميان


محمود الجاف

مُهاجرون فروا من الطُغيان الى الجبال . ولكن حدثت انهيارات صخرية عزلتهُم في وادٍ غامض . ثم انتشر بينهُم مرض افقدهم البصر وقد أصابهُم جميعًا . ظنوا أنه بسبب ارتكابهُم المعاصي . لم يروا أحدًا في حياتهم . وأورثوا أبناءهم العمى جيلًا بعد جيل ...

وفي أحد الأيام انزلقت قدم رجل فسقط ولم يعثر عليه أحد . لكنهُ لم يمُت . وعندما حاول المشي رأى البيوت تملأ الوادي . ألوانها فاقعة وشكلها غريب وليس فيها نوافذ . قال في نفسه إن الذي بناها أعمى ؟

ناداهُم ولم ينظروا إليه وهنا تأكد أنهم عميان فتذكر المقولة الشهيرة : في بلد العميان يصبحُ الأعور ملكًا . أخبرهم أنه أتى من مكان حيث يبصر الناس . وكان عليه أن يوضح معنى كلمة يبصر؟ تحسسوا عينيه التي بدت لهم عضوًا غريبًا . لم يكن لديه شك أنه سيكون ملكًا ويسود هؤلاء القوم بسهولة . لكن الأمر ظل صعبًا لأنهم يعرفون كل شيء من خلال آذانهم . حتى إذا مشى على العشب أو الصخور فقد كانوا يستخدمون أنوفهم ببراعة تامة حتى إنهم يشمون رائحة الكَذِب . راح يحكي لهم عن جمال الأزهار والأشجار والغروب والشمس . يبتسمون ولكنهُم لا يُصدقون حرفًا . قرر أن يُوضح لهم أهمية البصر وما يحدث أمام المنازل . لكنهم طلبوا منه أن يخبرهم بما يحصل في داخلها . قالوا له : ألست تزعم أن البصر مهم ؟

وبعد فترة بدأ قلبهُ يميل لفتاة لايحبها العميان . ولما طلب يدها لم يُوافقوا لأنهُم كانوا يعتبرونهُ أدنى من مُستواهُم . كانت الفتاة تميل لهُ فعلًا . لكن الحُكماء رأيهُم قاطع . الفتى عندهُ شيئان غريبان مُنتفخان يُسميهما ( العينين ) وجفنان يتحركان وعليهما أهداب . وهذا العضو قد أتلف مُخهُ ولابد من إزالتهُ ليسترد عقله . بالتالي يُمكنهُ أن يتزوجها . ملأ الدنيا صراخًا فهو لن يُضحي بهما رغم إن الفتاة ارتمت على صدره وبكت وهمست : ليتك تقبل !

وهكذا صار العمى شرطًا ليرتفع المرء من مرتبة الإنحطاط ويصبح مُواطنًا كاملًا
خرج ليرى العالم للمرة الأخيرة وهنا شاهد الوُرود تغمرُ الوادي . ونظر إلى السماء . كيف يفقد هذا كلهُ وكيف أقنعوهُ أن البصر شيء لا قيمة له . هرب مُسرعًا وعندما غربت الشمس كان بعيدًا جدًا . نزفت كفاه وتمزقت ثيابهُ لكنهُ كان يبتسم .. رفع عينيه وراح يرمُق النجوم .

هناك لحظة تدرك فيها أن الخطأ يسود وينتشر من حولك . وهنا يُصبح الثابت على الحق كالقابض على الجمر . تشعر بالغربة والإختلاف . والأدهى أن لديك فضائل لكنهم لا يرونها . وقد يأتي الوقت الذي تقرر فيه أن تتخلى عن عينيك لتصبح كالآخرين . والأصح أنه آتٍ لاريب . لكن لو كنت محظوظًا سترى خيوط الشمس وقتها وتعرف فداحة ما ستفقده .

كلما رأيت الذين تخلوا عن القيم . أتذكر قصة ( العميان ) وأقرر أن أصمد . واعرف أن أولى خطوات الرضوخ ستكون هي لحظة انتزاع عيني . وستصبح حياتي أسهل وسأكون مُواطنًا مُحترمًا عندهُم . لكني أفلتُّ منهُم بمُعجزة ولحسن الحظ مع أمور أقل فداحة لان الهزيمة تترك مذاقًا مريرًا في الفم .. لاتحزن فلست وحدك . حتى الفراشات تدعوا لك .

نسمع ونرى تفاهات . مثل حرمانك لإنسان كان بحاجة لكلمة حُب وثناء . شيء فشلت فيه تمامًا لأن حركة المُجتمع أقوى منك . تفاهات تطوقنا من كل مكان . تكتشف مع الوقت أنه لايوجد بيت ولاحب ولاحارة ولا شارع . بل نادٍ كبيرلا تتعلم فيه شيء . وانك لاتختلف عن الآخرين وأن أي خطأ بعد هذا ستكون أنت المسؤول عنه . وفي النهاية يجد المرء نفسه يقود سيارته في بلاهة متجهًا إلى مركز الألم . أنا ذكرت الأشياء القابلة للذكر فقط . امدحوا بناتكم وأولادكم ونسائكم فوالله جُل ما يتمنونه كلمة ثناء بدل هذا الوهم والكبرياء والجفاء ...

بدلوا أفكاركم حتى يتغير سلوككم . ألا ترون الزهور رغم ضعفها تعطي رائحة زكية
تعلموا : بدلَ أن تُوزعوا الحُزن والألَم ... امنحوا الناس الإبتسامة والأمَل
وأنا قررتُ أن احتفظَ بعيني . حتى لو أصيبَ كلُ من حولي بالعَمى

2018 . 07 . 02



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق