بسم الله الرحمن الرحيم
وادي العميان
محمود الجاف
مُهاجرون فروا من الطُغيان الى الجبال . ولكن حدثت انهيارات صخرية عزلتهُم في وادٍ غامض . ثم انتشر بينهُم مرض افقدهم البصر وقد أصابهُم جميعًا . ظنوا أنه بسبب ارتكابهُم المعاصي . لم يروا أحدًا في حياتهم . وأورثوا أبناءهم العمى جيلًا بعد جيل ...
وفي أحد الأيام انزلقت قدم رجل فسقط ولم
يعثر عليه أحد . لكنهُ لم يمُت . وعندما حاول المشي رأى البيوت تملأ الوادي .
ألوانها فاقعة وشكلها غريب وليس فيها نوافذ . قال في نفسه إن الذي بناها أعمى ؟
ناداهُم ولم ينظروا إليه وهنا تأكد أنهم
عميان فتذكر المقولة الشهيرة : في بلد العميان يصبحُ الأعور ملكًا . أخبرهم أنه
أتى من مكان حيث يبصر الناس . وكان عليه أن يوضح معنى كلمة يبصر؟ تحسسوا عينيه
التي بدت لهم عضوًا غريبًا . لم يكن لديه شك أنه سيكون ملكًا ويسود هؤلاء القوم
بسهولة . لكن الأمر ظل صعبًا لأنهم يعرفون كل شيء من خلال آذانهم . حتى إذا مشى
على العشب أو الصخور فقد كانوا يستخدمون أنوفهم ببراعة تامة حتى إنهم يشمون رائحة
الكَذِب . راح يحكي لهم عن جمال الأزهار والأشجار والغروب والشمس . يبتسمون
ولكنهُم لا يُصدقون حرفًا . قرر أن يُوضح لهم أهمية البصر وما يحدث أمام المنازل .
لكنهم طلبوا منه أن يخبرهم بما يحصل في داخلها . قالوا له : ألست تزعم أن البصر
مهم ؟
وبعد فترة بدأ قلبهُ يميل لفتاة لايحبها
العميان . ولما طلب يدها لم يُوافقوا لأنهُم كانوا يعتبرونهُ أدنى من مُستواهُم .
كانت الفتاة تميل لهُ فعلًا . لكن الحُكماء رأيهُم قاطع . الفتى عندهُ شيئان
غريبان مُنتفخان يُسميهما ( العينين ) وجفنان يتحركان وعليهما أهداب . وهذا العضو
قد أتلف مُخهُ ولابد من إزالتهُ ليسترد عقله . بالتالي يُمكنهُ أن يتزوجها . ملأ
الدنيا صراخًا فهو لن يُضحي بهما رغم إن الفتاة ارتمت على صدره وبكت وهمست : ليتك
تقبل !
وهكذا صار العمى شرطًا ليرتفع المرء من
مرتبة الإنحطاط ويصبح مُواطنًا كاملًا
خرج ليرى العالم للمرة الأخيرة وهنا شاهد
الوُرود تغمرُ الوادي . ونظر إلى السماء . كيف يفقد هذا كلهُ وكيف أقنعوهُ أن
البصر شيء لا قيمة له . هرب مُسرعًا وعندما غربت الشمس كان بعيدًا جدًا . نزفت
كفاه وتمزقت ثيابهُ لكنهُ كان يبتسم .. رفع عينيه وراح يرمُق النجوم .
هناك لحظة تدرك فيها أن الخطأ يسود وينتشر
من حولك . وهنا يُصبح الثابت على الحق كالقابض على الجمر . تشعر بالغربة والإختلاف
. والأدهى أن لديك فضائل لكنهم لا يرونها . وقد يأتي الوقت الذي تقرر فيه أن تتخلى
عن عينيك لتصبح كالآخرين . والأصح أنه آتٍ لاريب . لكن لو كنت محظوظًا سترى خيوط
الشمس وقتها وتعرف فداحة ما ستفقده .
كلما رأيت الذين تخلوا عن القيم . أتذكر
قصة ( العميان ) وأقرر أن أصمد . واعرف أن أولى خطوات الرضوخ ستكون هي لحظة انتزاع
عيني . وستصبح حياتي أسهل وسأكون مُواطنًا مُحترمًا عندهُم . لكني أفلتُّ منهُم
بمُعجزة ولحسن الحظ مع أمور أقل فداحة لان الهزيمة تترك مذاقًا مريرًا في الفم ..
لاتحزن فلست وحدك . حتى الفراشات تدعوا لك .
نسمع ونرى تفاهات . مثل حرمانك لإنسان كان
بحاجة لكلمة حُب وثناء . شيء فشلت فيه تمامًا لأن حركة المُجتمع أقوى منك . تفاهات
تطوقنا من كل مكان . تكتشف مع الوقت أنه لايوجد بيت ولاحب ولاحارة ولا شارع . بل
نادٍ كبيرلا تتعلم فيه شيء . وانك لاتختلف عن الآخرين وأن أي خطأ بعد هذا ستكون
أنت المسؤول عنه . وفي النهاية يجد المرء نفسه يقود سيارته في بلاهة متجهًا إلى
مركز الألم . أنا ذكرت الأشياء القابلة للذكر فقط . امدحوا بناتكم وأولادكم
ونسائكم فوالله جُل ما يتمنونه كلمة ثناء بدل هذا الوهم والكبرياء والجفاء ...
بدلوا أفكاركم حتى يتغير سلوككم . ألا ترون
الزهور رغم ضعفها تعطي رائحة زكية
تعلموا : بدلَ أن تُوزعوا الحُزن والألَم
... امنحوا الناس الإبتسامة والأمَل
وأنا قررتُ أن احتفظَ بعيني . حتى لو أصيبَ كلُ من حولي بالعَمى
وأنا قررتُ أن احتفظَ بعيني . حتى لو أصيبَ كلُ من حولي بالعَمى
2018 . 07 .
02
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق