السبت، 24 مارس 2018

خاطرة عمرها 49 عاماً .... بقلم الدكتور ضرغام الدباغ




خاطرة عمرها 49 عاماً

بقلم الدكتور ضرغام الدباغ 


حمل العدد الأول من مجلة كلية الشرطة (وكنت عضو في مجلس إدارتها حين كنت ضابطاً برتبة ملازم أول في الكلية في مطلع الشباب) الذي صدر في حزيران / 1969 مقالاً ها أنا اليوم أعيد نشر كما جاء بدون أي تعديل أو تصحيح، وكون المقال يدور عن الفلسفة فهو صالح لإعادة النشر حتى بعد 49 عاماً .....!
وتشاء الصدف أن أدرس الفلسفة في جامعة دمشق، ثم أواصل الدراسة في ألمانيا، وهي أحداث لم تكن تدور حتى في خيالي .. شكراً لأحد طلابي في الكلية الذي احتفظ بالمجلة طيلة هذه السنوات وأورثها لأبنه وهو ممن يتابعون بدقة كتاباتي وخواطري ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النظر إلى العالم من خلال الفلسفة
للملازم الأول ضرغام عبد الله سعيد
إن التقدم التكني والتعاقب الحضاري وتقدم العلوم للحد الذي أصبح فيه متوقعاً وصول الإنسان إلى القمر خلال السنة القادمة، يؤكد لنا أن العالم في تطور سريع.. ولا شك أن لهذا التطور أدواته ونتائجه، وهنا وسائل عديدة لقياس تطور المجتمعات، إلا أنه توجد طريقة واحدة لمعرفة الأسس التي يتطور بموجبها عالمنا... ولهذه الطريقة الواحدة عدة مذاهب ومدارس فلسفية، وهذه الطريقة هي النظر إلى الأحداث الدائرة من حولنا من خلال الفلسفة، ولكن قبل كل شيئ يجب أن نعرف ما هي الفلسفة، إذ أن كثيرين جداً يتصورون أن الفلسفة هي هرطقة كلامية وتزويق في العبارات، أو في أحسن الحالات التبحر والتعمق في المسائل إلى درجة تبعدها عن الواقع، إلا أن هذه التعريفات وهذه التطورات هي بعيدة عن الحقيقة كل البعد، ذلك لأن الفلسفة في الواقع مفتاح لتفسير أشد القضايا اللصيقة بالإنسان.
إن المعنى المجرد والمنقول لكلمة الفلسفة، والمترجمة عن اليونانية هي " حب المعرفة " والإنسان لا يمكنه فهم الأحداث الدائرة حوله إلا إذا أسترشد بنظرة صحيحة إلى العالم، تمثل مجمل المفاهيم عن الحياة، عن العالم كله، عن هذه أو تلك من الظاهرات والأحداث، أو يمكن القول تماماً بأن الفلسفة هي العلم بالقوانين الأكثر شمولاً لتطور الطبيعة والتفكير البشري.
ولا يمكن أن تكون لكافة المجتمعات فلسفة واحدة، أو فهم واحد للفلسفات، وحيث أن هذا يتوقف توقفاً كبيراً بل أكيداً على الأوضاع الاجتماعية التي تفهم هذه الفلسفة أو تلك. فلا يمكن أن تكون فلسفة المظلومين والظالمين هي واحدة، ويعني هذا أن الفلسفة ليست محايدة ولا يمكن أن تكون كذلك.
نظرة إلى تاريخ الفلسفات المعاصرة

هناك حزبين فلسفيين تين فلسفيتين تتصارعان هما: الفلسفة المادية والفلسفة المثالية.
إن الطبقات الرجعية تشوه معنى الفلسفتين، فتصور للناس أن المادي هو من يخدم منافعه الشخصية، والمثالي هو من يخدم فكرة منزهة عن الغرض، وهو تصوير غير صحيح أصلاً، رغم أن الفلسفتين متعارضتان من أوجه أخرى.
1. الظاهرة المادية : كالحجر والأشجار والرعد والبرق والماء والحيوانات والنباتات، وكثير من هذه الظاهرات توجد مستقلة عن وعي (إدراك) الإنسان، ونحن نعرفها بفضل حواسنا، فنستطيع رؤيتها وسماعها، ونستطيع أن نزنها وأن نقيسها.
2.الظاهرة المثالية الروحية : مثل الفكر والإحساس والإرادة والرغبة، وهذه لا نستطيع رؤيتها وسماعها ويستحيل وزنها أو قياسها ، وإن هذه الظاهرة لا توجد إلا في وعي وإدراك الإنسان ذاته.
ما هي الصلة التي تربط الظاهرة المادية بالظاهرة الروحية المثالية ؟
والسؤال هنا أي من الظاهرات تسبق الأخرى ؟ وما هو الذي ينبغي اعتباره الأول : العالم المادي أم العالم الروحي المثالي ..؟
إن الفلاسفة الذين يؤلفون المعسكر المادي في الفلسفة يعتبرون العالم المادي أولياً، ويعتبرون الوعي (الإدراك) ثانوياً لأنه ناتج عن الطبيعة وهي مادية.
في حين أن الفلاسفة الذين يؤلفون المعسكر المثالي الروحي في الفلسفة يعتبرون العالم الروحي المتمثل في الوعي (الإدراك) أولياً، ويعتبرون الطبيعة (المادية) ثانوية وناتجة عن الوعي.
وهنا يكمن الخلاف المحتدم بين هذين المعسكرين منذ أكثر من 2500 سنة وحتى الآن.
الماديون يعتمدون على منجزات العلم ويبرهنون أن الأشياء المحيطة بنا توجد بحد ذاتها خارج وعينا مثل الأشجار والحجر، وأن العالم موجود قبل أن يظهر الإنسان ووعيه.
والمثاليون يدعون رغم معطيات العلم، بأن العالم المحيط بنا قد ولدها الوعي، وبأنه في البداية توجد الفكرة والمفهوم والرغبة، ثم تولد الأشياء والمواد.
وهناك نوعان من المذاهب المثالية هما : المثالية الموضوعية، والمثالية الذاتية.
إن الموضوع بوجه عام هو ما يوجد خارج الإنسان ومستقلاً عن وعيه. وبعض المثاليين ينطلق من أن فكرة موجودة موضوعياً هي التي ولدت العالم، لذا يسمون مثاليين موضوعيين، ومنهم هيجل وأفلاطون.
أما الذاتي فهو ما يلزم ويميز الشخص المعني، وأنه لا يوجد غير الإنسان الذات ووعيه، وأما الأشياء فلا توجد حسب زعمه إلا حينما يدركها الإنسان بحواسه، عندما يحس بها ويسمعها ويراها ويلمسها، وإلا فلا يوجد شيئ. وقد أطلق على هذا النوع من المثالية، أسم المثالية الذاتية، ويتزعم هذه المدرسة الفيلسوف الإنكليزي بريكلي.
إن المثالية سواء كانت ذاتية أو موضوعية، تدحضها التجربة اليومية للبشر، إذ أن الأشياء هي موجودة، وبالتالي يبدأ الإنسان بتحسس طعمها ولونها ومذاقها. والفرد العادي يكتشف هذه المسألة بسهولة عفوية، وتأتي الفلسفة وتؤكدها علمياً فتحولها من مادية عفوية إلى مادية علمية تقوم على أسس علمية فتساعد الناس على فهم ظاهرات الطبيعة، وفهم أحداث الحياة الاجتماعية فهماً صحيحاً.
ماذا يعكس الصراع بين هاتين الفلسفتين ..؟

إن هذا الصراع الفكري بين المادية والمثالية يعكس صراع الطبقات، صراع القوى التقدمية والرجعية في المجتمع، وفي هذا الصراع كانت المادية دوماً وكقاعدة تدافع عن مصالح القوى التقدمية في المجتمع، بينما كانت المثالية (ما عدا استثناءات) تدافع عن مصالح القوى الرجعية.
ما هي طرق معرفة العالم ..؟

لما كان العالم مجموعة من الظواهر، ولما كانت الفلسفة هي الطريق الوحيد لفهم العالم بما فيه من ظواهر، فإن هناك طريقتين أو وسيلتين لمعرفة جميع الظاهرات، وهما الديالكتيكية، والميتافيزيقية.
1. الديالكتيكية : وتتطلب النظر إلى جميع الأشياء والظاهرات في تطورها المستمر وتغيرها الدائم، ويفهم من الديالكتيكية بأنها طريقة فلسفية لمعرفة الواقع، نقول بأن كل شيئ في العالم يوجد في تطور وتغير، وكل شيئ يجري ... كل شيئ يتغير (هيروقليطس).

2. الميتافيزيقية : وتعني النظر إلى جميع الأشياء والظواهر بوصفها جامدة لا تتحرك ولا تتغير.
وهكذا نرى أن الديالكتيكية والميتافيزيقية هما طريقان مختلفان، بل متضادان. ومما لا شك فيه أن الطريقة التي يجب أتباعها هي طريقة الديالكتيك وهذا يتفق مع الواقع وما يؤكده العلم والتجربة، إذ أن الحياة لا تتوقف، ومنذ أمد ليس بعيد كان الإنكليز والفرنسيون يسيطرون على أفريقيا وعلى أماكن أخرى من العالم، والآن تحررت جميعها، هذا إلى جانب شواهد كثيرة أخرى توضح أن الحياة لا تتوقف، مما يعزز النظرة الديالكتيكية.
وفي الأعداد القادمة من هذه المجلة سنحاول بحث المزيد من هذه الأفكار التي بلا شك تجعل الإنسان أكثر قدرة على تحليل الأوضاع والأحداث تحليلاً صحيحاً، وقد حاولنا من جانبنا أن نكون على جانب كبير من الدقة بالنظر لأهمية هذا الموضوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة كلية الشرطة / بغداد : العدد الأول ، حزيران / 1969

الصورة هي لأجتماع مجلس إدارة المجلة من اليمين إلى اليسار: الملازم أول ضرغام، النقيب يونس سليمان، العقيد جمال الطائي، الدكتور أكرم نشأت، الملازم حاتم عبد الكريم، التلميذ هاشم علي

نسخة مصورة من الصفحة الأولى للمقال




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق