العلاقة بين اهداف الحزب وحياته الداخلية
أ.د ابو لهيب
ان الافكار تأخذ بعدها الواقعي في سلوك المناضل من خلال التنظيم ، ففكرة الوحدة ، مثلاً ، يعبر عنها ، التنظيم ، ويرفض كل مايتعارض مع هذه الفكرة ، من اقليمية وطائفية ، ويساعد التنظيم ، في تكوينه العام ، على اعطاء صورة الوطن العربي الموحد ، لأنه يضم بين صفوفه مواطنين من مختلف الاقطار العربية ، وولائهم للأمة وارتباطهم بأرضهم عميق .
وفي الهيكل التنظيمي لحزب البعث العربي الاشتراكي نجد على قمة التنظيم الهرمي قيادة قومية تتفرع عنها قيادات رأسية لاقطار الوطن العربي ، كل حسب ظروفه ومدى تطور التنظيم الحزبي فيه . ان الهيكل القومي لتنظيم حزب البعث العربي الاشتراكي يتعامل مع هدف الوحدة كواقع ليس في النظرية البعثية حسب بل في حياة الحزب الداخلية وطبيعة التنظيم .
ويعبر عن الحرية باحترام الرأي الآخر داخل التنظيم ، واحترام صيغة العمل الجماعي وتقاليده ، والالتزام بمجمل صيغ الانضباط الحزبي ،التي يتعلمها البعثي ،عبر ممارسة الصيغة التنظيمية،وكذلك احترام رأي وسلوك الآخرين بما لا يشكل خطراً على التنظيم والشعب وألوطن
وهكذا فان الحرية لم تعد مجرد كلمة جميلة نستعملها مصطلحاً سياسياً مفرغاً من محتواه العلمي او الاجتماعي ، وانما هي موقف وسلوك يدخلان في أدق تفاصيل حياتنا اليومية ويرسمان صورة المستقبل ، التي حددتها اهدافنا ، وسرنا اليها من خلال نضالنا للوصول .
اما الاشتراكية فيعبر عنها بالابتعاد عن كل اشكال الكسب غير المشروع ونبذ روح الاستغلال ، واقتناص الفرص والتكالب على ماديات الحياة . والاشتراكية مثلما هي قرارات وقوانين فهي سلوك وايمان . وليس اقدر من التنظيم على غرس الايمان في عقل وضمير الانسان ، وعلى تكريس السلوك الاشتراكي لديه . وهذه هي ميزة التنظيم من اجلها ...اي انه لايضعه بعيداً عن الواقع ، ويتركه غارقاً في سيل الكلمات والمصطلحات .
ان الممارسة التنظيمية لحزب البعث العربي الاشتراكي عبر اندماجها بالعملية الفكرية والتثقيف المتعدد الاوجه والاساليب تتحول الى عملية بناء للأنسان ففي الوقت الذي تخلق الحياة الداخلية للحزب الملامح المشتركة للبعثي في الفكر والسلوك والارادة ، ليس من الصعب تلمسها حين ننظر اليها من خلال تجربة تنظيمية ناضجة ومتميزة ، اذ نجد ان الملامح المشتركة بين بعثي وبعثي أخر تتجاوز في قربها وتشابهها الملامح المشتركة في الفكر والسلوك والارادة بين شقيق وشقيقه حين ينشأ ذلك الشقيق خارج اطار هذا التنظيم .
ان هذا الزخم هو الطریق الى التغیر ، وهو المعبر عن ارادە النضال ضد قوى الاستغلال والتخلف والتعسف والدكتاتورية ، وضد قوى القمع والسيطرة والتوسع . فلنتصور ان نظاماً متعسفاً يمتلك كل وسائل القمع وادوات القهر ، هل بالامكان مواجهته بالارادة الفردية ، مهما كانت هذه الارادة مؤمنة وصادقة وشجاعة ؟ .
ولنتصور مجتمعاً متخلفاً غارقاً بالجهل والمرض والتردد والفقر ، هل يمكن ان ننتقل به الى شاطئ التقدم متجاوزين واقع التخلف بالارادة الفردية وحدها ؟ .
نحن نعرف ان كل حالات التغيير الكبير ، التي حققها الانسان في تاريخه جاءت من خلال الزخم العام الذي تصنعه الافكار المقرونة بالأرادة المنظمة .
وهنا يجدر بنا ان نشير الى الخبرة التي يقدمها التنظيم للأنسان وللمناضل ، ولنأخذ مثلاً تجربة حزبنا في العراق ، حيث تم بناء أنضج تجربة ثورية وأكملها في المجالات السياسية والتنموية والثقافية ، من بين كل التجارب التي عرفها العالم الثالث ، فالملفت للنظر ان الذين كانوا وراء بناء هذه التجربة الثورية الفذة مناضلون لم تكن لهم اية خبرة او تجربة في ادارة الدولة وان كل تجربتهم اكتسبوها من خلال تجربة التنظيم الحزبي .
وتبرز في هذا السياق ظاهرة الرفيق القائد صدام حسين عبر مسيرة تجربة الثورة في العراق ، ففي كل المنعطفات التي مرت بها والانجازات الكبيرة التي حققتها كان هو المبادر والمخطط والمتصدي للصعوبات وواضع الحلول .
ان الرفيق القائد صدام حسين قد اكتسب كل خبراته من خلال تجربته التنظيمية في صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي . وهو الذي عرفته الحياة الحزبية منذ كان فتى وقاد الحزب في اصعب المراحل واكثرها تعقيداً ، واوصله بالوعي والارادة والتصميم والانضباط الشديد الى حيث الامان.
ان التحاق الفرد بالتنظيم الحزبي يمثل بداية المسؤولية الكبرى اذ ينتقل فيه من مرحلة الانسان الاعتيادي الى مرحلة الانسان المسؤول ، حيث يجد له موقعاً في الهدف الكبير السامي لأمته . وهذا يتطلب منه جهوداً استثنائية في الالتزام والمواصفات الفكرية وفي العطاء المميز والاستعداد للتضحية ، لكي يكون جديراً بصفة البعثي التي تميزه في المسؤوليات والاعباء والوعي والارادة.
لذلك فان التنظيم هو انتقال من حالة الى حالة جديدة وهو وسيلة التغيير ، و وسيلة بناء التجربة وشدها اذ يحقق التجانس الفكري بين المناضلين لا من خلال قراءة الفكر المجرد واستيعابه وانما من خلال الممارسة النضالية ، من جهة ، والحوار والمناقشة من جهة ثانية .
ان التنظيم هو مدرسة المناضل ، ليس في مجال اكتساب المعارف حسب ، بل في امتحانها
وبالاضافة اليها ، والتواصل معها ، والخروج بقناعات فكرية محددة ومنضبطة ، دون ان تتحول الى نصوص جامدة تمنع تطورالمناضل او تحط النظرية وتقطعها عن اسباب الحياة ..فالتنظيم الحزبي ، بما يوفره من اجواء ديمقراطية ، يطور فكر المناضلين بأتجاه الوحدة والتجانس ، ويقرب من الفروق ، ويلغي التناقضات الحادة ، ويفتح افاقاُ لتطور هذا الفكر بالاتجاه نفسه وعلى المرتكزات نفسها .
وهو يسير عملية ايصال المواقف والتعليمات والتوجيهات ، التي يريد الحزب ايصالها الى مناضليه ، وذلك عن طريق الحركة السريعة التي يوفرها التسلسل الحزبي ، اذ يستطيع المسؤول ان يوصل الموقف او التعليمات والتوجيه ،الى عدد كبير من المناضلين ، الذين هم في المنظمة المسؤول هو عنها ، باختصار شديد في الزمن وفي الحركة ، لان الاجتماع يعقد عادةً في مكان وزمان معينين .
ان التنظيم يعلمنا كيف نتعامل مع الوقت ، ويعلمنا معنى الاحترام المواعيد وعدم التفريط بها وعدم التساهل في ضبطها .
ان احترام موعد الاجتماع عامل رئيسي واساسي في النظرية التنظيمية لحزب البعث العربي الاشتراكي ، لان احترام المواعيد ودقتها ، وعدم التفريط بالوقت ، اثناء الاجتماعات ، بطرح امور وقضايا غير اساسية ، يؤكد الموقف الاخلاقي لحزبنا من جهة ويرسم صورة المجتمع الجديد ، الذي يناضل حزبنا من اجل نهضته ، هذا المجتمع الذي يحترم الوقت ويحافظ عليه ، ويلتزم بدقة المواعيد في كل تفاصيل حياته .
ثم ان من مهمات التنظيم وعبر الممارسة اليومية ، ومن خلال التشخيص الدقيق ، والملاحظة المستمرة التي يبديها مسؤول المنظمة وبقية المسؤولين صعوداً في سلم المسؤولية ان يكتشف القدرات الخاصة التي يتميز بها مناضل عن آخر ، تنظيمية كانت ام ثقافية ، ثم العمل على وضعها في مجالات مناسبة ، والعمل على رعايتها ومنحها الفرص التي تجعلها تصل الى مديات واسعة ويتم ذلك عبر نشاطات الحزب ، وقد تخرج الى المجتمع حين تتبلور بالرعاية المستمرة .
وداخل الحزب يظل المناضل حريصاً كل الحرص على صقل نفسه وروحه وتطهيرهما من كل شائبة سواء في الفكر او التصرف او السلوك ، وان تتمثل فيه دوماً الاخلاق الحسنة والنزاهة والعفة والامانة والاخلاص والشجاعة والوفاء والشهامة ونكران الذات ليكسب رضا الجماهير وحبها وتقديرها ، وبالتالي ليعبر بصدق وبأصالة عن وجه الحزب الناصع ، فهو في محيط ومجال عمله قدوة للجماهير ، تتعلم منه ويتعلم منها ، ويؤثر ويتأثر ، وهو ايضاً لايسنطيع ان يشق طريقه.
كمناضل طليعي نموذجي في صفوف الحزب من دون ان يحمل في ضميره ووجدانه كل ماهو خير وصدق وشرف من عادات وتقاليد الشعب .
ان معظم مثقفي حزبنا خلال مراحل نضاله التي سبقت تسلم السلطة في العراق برزوا من خلال النشاط الثقافي داخل الحزب ومن خلال العمل في وسائل الثقافة فيه ، رغم محدوديتها .
ان اكتشاف القدرات الخاصة والمواهب المتميزة لن يقف عند حدود التنظيم الحزبي حسب بل يتجاوز ذلك الى وسع المجالات الشعبية . وان سعة مساحة التنظيم وانتشار الحزبيين بين اوساط الشعب تؤهلهم لمراقبة وملامسة واكتشاف هذه القدرات واصحابها ، وبدلاً من ان تضيع في زحمة الحياة يمكن ان تأخذ طريقها الى النضج والمقدم عن طريق التحاقها بالتنظيم لما فيه مصلحة التقدم.
واخيراً نشير الى دور التنظیم فی تقدیر وصول التعلیمات والمواقف الى المنتظمین وحدهم او الى جماهیر الشعب ایضاً ، والخشية هنا كما نعلم ليست من جماهير الشعب فهي وسط الحزب الذي يعيش فيه وينمو ويتطور ويتجدد فيه ، ولكن الخشية من ان تصل الى اعداء الشعب فتستعمل ضد الحزب ،وضد حركة التقدم . هذا حين يكون الحزب في السلطة او يكون له قدر من حرية العمل.
اما اذا كان الحزب يخوض النضال ضد سلطة قمعية متسلطة ، فان التنظيم السري يحفظ الحزب من ان يتعرض لضربات الاجهزة القمعية ، ويحفظ بعض المواقف والتعليمات والتوجيهات في حدود ترسمها القيادة المعنية خشية من ان تستفيد منها اجهزة القمع واعداء الحزب ، وتيسر لهم مهمة ضرب الحزب ، والحد من نضاله ، والتأثير على نشاط مناضليه .