الاختناق الايدولوجي والنزعة إلى التمرد
د. نزار محمود
من الضياع أن يعيش إنسان دون منظومة فكرية وأخلاقية معينة تحدد له
اتجاه المسار وتحفظ عليه توازنه العقلي والعاطفي، وتعطيه معنىً لحياته، وتؤسس له
مقاسات نجاح وفشل، وتضع له ضوابط مسموحات ومحرمات.
وقد لعبت هذه المهمة ديانات وفلسفات ونظريات في حياة البشر قديماً
وحديثاً. منها ما اعتبرناه سماوياً ومنها ما أطلقنا عليه وضعياً، أي من صنع البشر.
ولم تكن تلك الديانات والفلسفات والنظريات لتنطق وتفسر بذاتها، وإنما
كان لها على الدوام أشخاص من البشر ممن كان يتولى هذا الدور. فالأنبياء والرسل ومن
يليهم في سلالم تراتبية الديانات كانوا قد قاموا بمهمة إيصال ما يوحى إليهم
ويجسدوا ذلك في أفعالهم ونصائحهم. وهكذا الفلسفات والنظريات في من تبناها وتبعها
واعتمدها نبراساً في حياته.
ومع مرور الوقت واختلاف ظروفه الزمانية والمكانية وتطور المعرفة
وأوعيتها استوجب الأمر تكيفاً لتلك الديانات والفلسفات والنظريات استجابة لتلك
التغيرات واستعداداً للاجابة على المستجدات من تساؤلاتها.
وهذا ما حصل عبر التاريخ وما يحصل في المجتمعات الشمولية، دينية أو
فلسفية، عندما يبالغ أصحابها في إكراه الإنسان على تبني ايدولوجية ما دون إعطائه
هامشاً من خصوصية أو رغبة فردية في المخالفة ودون مراعاة لحتمية التغير في حياة
البشر، ناهيك عن عوامل الضغط الخارجية.
وهنا تولدت وتتولد نزعة التمرد التي تنوعت وتتنوع استجابة السلطات
الايدولوجية في التعامل معها، ما بين منع وقهر لها، وبين تماش وتحايل عليها، وبين
مهادنتها ومقاسمتها الرأي والفكر، وبين التنازل والاستسلام لها.
لقد حصل ذلك في دين أوروبا القرون الوسطى، وفي شيوعية أوروبا الشرقية
وفي غيرها من المناطق والايدولوجيات.
باختصار شديد: عندما يحصل اختناق ايدولوجي تولد في المقابل نزعة الى
التمرد، وهو ما حصل ويحصل!.
برلين، ٣/٦/٢٠١٩
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق