السبت، 19 ديسمبر 2015

كتاب العراق ثلاثون عاما من مسيرة الخير والتقدم ...الجزء الخامس


بمناسبة الذكرى التاسعة لاستشهاد الرئيس الخالد صدام حسين 

كتاب قدم هدية من قبل لجنة لبنان 

للنشر 


العراق
ثلاثون عاماً من مسيرة الخير والتقدم
الجزء الخامس
-----------------------------

القانون رقم (80) لسنة 1961
وبعد ثلاث سنوات من المباحثات غير المجدية مع شركات النفط الاحتكارية العاملة في العراق صدر القانون رقم 80 سنة 1961الدي وضع مبدأ جديداً في علاقات الدولة مع الشركات الأجنبية سجل فيه حق العراق في تقرير سياسته النفطية ضمن حقوقه في السيادة الوطنية دون الرجوع إلى الشركات الأجنبية وبهذا يعد صدور القانون خطوة مهمة على طريق التحرر الاقتصادي من هيمنة شركات النفط الأجنبية واستغلالها.

تراجع سلطة الثورة
شكلت ثورة 14تموز حالة انعطاف جادة في تاريخ العراق السياسي الحديث أفضت إلى إحداث تغييرات مهمة في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إلا ان الثورة ولدت وهي تفتقد فلسفة كلية وبرنامجاً للعمل مما أدى إلى طغيان الخلافات الشخصية بين كبار الضباط الأحرار فضلاً عن الخلافات بين القوى والأحزاب السياسية في جبهة الاتحاد الوطني  الأمر الذي انعكس سلبا على حالة الاستقرار السياسي منذ مراحل الثورة الأولى.
وقد تمخض هذا عن سيادة النزعات الفردية التي وظفت تلك الخلافات لمصالحها الشخصية مما أدى إلى استفحال حالة تفتيت القوى الوطنية وضرب بعضها ببعض وتصديع الوحدة الوطنية واستفحال مظاهر الانقسام وفقدان الأمن ودخول العراق مرحلة الفوضى مما أعاد النشاط السياسي إلى العمل السري نتيجة غياب الحريات السياسية واستفحال الفساد والوصولية.
وأفضى ذلك إلى تراجع خطوات الثورة في الميادين التي شملتها الإصلاحات في الفترة الأولى للثورة. وأعاد كل ما تقدم العراق إلى ساحة الصراع السياسي بين العناصر والقوى السياسية الأساسية في البلاد.

1- على الصعيد الداخلي:
شهدت المرحلة 1958- 1923 صراعاً دامياً على صعيد القوى العسكرية والقوى المدنية:
أولاً:-  على الصعيد العسكري:
كان منطلق الصراع بين العسكريين هو عدم تنفيذ قرار اللجنة العليا للضباط الأحرار بتأليف مجلس لقيادة الثورة يتولى مسؤولية السلطتين التشريعية والتنفيذية لفترة انتقالية تؤلف فيها حكومة مدنية من زعماء الحركة الوطنية حتى إجراء انتخابات عامة وتشكيل مجلس وطني يرسي قواعد النظام الديمقراطي في البلاد. لذلك كان إعلان الثورة وتأليف مجلس للسيادة ومجلس للون راء برئاسة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم ونائبه العقيد الركن عبد السلام عارف مفاجأة للضباط الأحرار.
ويضاف إلى ذلك تذمر الضباط الأحرار من عدم أخبارهم بموعد الثورة، لذا وفضوا الأوامر السلطوية التي مارسها عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف.
وقد ازداد الأمر سوءاً عندما احتدم الصراع بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وهو الصراع الذي أفضى إلى إبعاد الأخير وتجريده من سلطاته بسبب شعور عبد الكريم قاسم ان عبد السلام عارف بدأ يتصرف وكأنه قائد الثورة ويتجاهله في جولاته وخطبه الحماسية أمام الجماهير، والواقع ان كلاً منهما كان ذا نزعة فردية دفعتهما بعد الثورة وللأسباب المذكورة آنفاً إلى التنافس ثم الصراع، وقد بدأ الصراع منذ اليوم الأول للثورة إذ عارض عبد الكريم قاسم نزعة عبد السلام عارف لتصفية العائلة المالكة وقد اشتد الصراع بعد اندفاع عبد السلام عارف باتجاه الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة خلافاً لرغبات عبد الكريم قاسم وهو الموضوع الذي أثار إشكالاً بين القوى السياسية ذات المواقف المختلفة من هذا الموضوع.
وعموماً فأن عبد السلام عارف لم يكن يريد من الوحدة سوى غطاء لصراعه مع عبد الكريم قاسم لأنه لم يكن يمتلك الوضوح الفكري أو الأيديولوجي.
وبعد عودة عبد السلام عارف من بون حيث عين سفيراً للعراق بأمر عبد الكريم قاسم، أودع السجن وحوكم، وحكم عليه بالإعدام شنقاً، ولم ينفذ الحكم بل صدر أمر بإطلاق سراحه عام 1961وبقي تحت المراقبة حتى قيام ثورة 8شباط 1993.
وشهد العراق أيضاً أحداثاً سياسية وعسكرية أبرزها:
1- حركة رشيد عالي الكيلاني واتهامه بالتآمر على الجمهورية ومحاولة قلب نظام الحكم بالتعاون مع الجمهورية العربية المتحدة وذلك في 9كانون الأول 1958 وهو يوم إحالته إلى محكمة عسكرية خاصة وفي 14 كانون الأول 1958 حكم عليه بالإعدام شنقا ولم ينفذ الحكم فيه بسبب عدم تصديق رئيس الوزراء على الحكم.
2- ثورة عبد الوهاب الشواف في الموصل الذي شرع منذ اليوم الثاني لثورة 14 تموز 1958 في التفكير بالإطاحة بعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وقد التحق به عدد من الضباط الأحرار وهم من الذين عارضوا انحراف الثورة عن الاتجاه القومي.
واعد برنامج كامل للحركة يقضي بإعلان الزعيم الركن ناظم الطبقجلي العصيان والتمرد في المنطقة الشمالية، منطقة وجوده العسكري، ويسانده المقيد عبد الوهاب الشواف في الموصل، ثم تتحرك العناصر العسكرية الموالية للحركة في بغداد للسيطرة على المواقع المهمة واعتقال عبد الكريم قاسم وأنصاره والإبقاء على مجلس السيادة برئاسة الفريق الركن محمد نجيب الربيعي الذي وافق على الحركة، وتأليف مجلس لقيادة الثورة، واحتفاظ قادة الفرق في الجيش بمراكزهم بيد ان عدم انسجام الضباط القائمين بالحركة والإعلان المفاجئ للثورة دون تنسيق سابق مع العناصر المؤيدة وسرعة تحرك عبد الكريم قاسم لمواجهة الثورة، ومقتل عبد الوهاب الشواف بعد اقل من 24ساعة من إعلان البيان رقم واحد وعدم نضوج الظروف الموضوعية والذاتية، كل ذلك أفضى إلى فشل الحركة ومحاكمة المتهمين بحركة الموصل وصدور قرارات بإعدام قادتها والسجن والإشغال الشاقة لضباط ومدنيين ممن لهم صلة بها.

ثانياً: على صعيد الأحزاب السياسية:
انعكس الخلاف بين قادة الثورة والضباط الأحرار على الأحزاب والقوى السياسية مما أدى إلى انهيار جبهة الاتحاد الوطني.
فقد تزعم عبد السلام عارف اتجاه الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة يسانده في ذلك حزب البعث العربي الاشتراكي وحزب الاستقلال والعناصر القومية الأخرى، في حين ذهب عبد الكريم قاسم إلى تحقيق الاتحاد الفدرالي يسانده في ذلك الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي وعناصر أخرى. في ضوء ذلك، فأن انحياز عبد الكريم قاسم إلى الشيوعيين اقتضته ظروف الصراع مع التيار الذي قاده عبد السلام عارف.
وفي الوقت الذي استخدم فيه عبد الكريم قاسم الحزب الشيوعي لمواجهة التيار القومي الآخر، فأن الحزب الشيوعي العراقي سعى إلى توظيف عبد الكريم قاسم لمصلحته الخاصة مما أدى إلى اندلاع الصراع بين التيارين القومي والشيوعي في بغداد ومدن العراق.
ولذا شهد العراق صراعاً دامياً بين الأحزاب السياسية. إلا ان استمرار ألصراع أفضى إلى سعي الأحزاب القومية إلى تشكيل «الجبهة القومية» مستبعدة الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي اللذين وقعاً ميثاقاً للتعاون مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في 10 تشرين الثاني 1958.
وقد باءت بالفشل كل محاولات إحياء جبهة الاتحاد الوطني بين الأحزاب بسبب انصرافها إلى تأييد هذا الجناح أو ذاك من العسكريين فدخلت الأحزاب في نفق الصراعات السياسية.
ومن الواضح ان كل ما تقدم هو نتاج حقيقة موضوعية مؤداها ان الجميع كان متفقاً على إزالة النظام الملكي وقيام الثورة أما ما يلي ذلك فهو مثار خلاف الجميع.
وقد طغت المصالح الفردية في التعامل مع الأحزاب على الأسس الأيديولوجية بدليل ان عبد الكريم قاسم الذي استخدم دعم الحزب الشيوعي والديمقراطي الكردستاني والحزب الوطني الديمقراطي عاد ليضرب الأحزاب كلها بما فيها الحزب الشيوعي الذي ارتكب العديد من حالات العنف في الموصل وكركوك بعد ثورة الشواف، مما دعا عبد الكريم قاسم إلى «تشكيل هيئة تحقيقية في جرائم الشيوعيين». لهذا كله ساد الاعتقاد وطنيا ان التخلص من سيادة الفرد على سيادة المجموع لن يتم إلا باستئصال رأس النظام نفسه وهو القرار الذي اتخذته قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي. ونفذته طليعة من أعضائه كان في مقدمتهم المناضل صدام حسين وذلك في محاولة اغتيال قاسم مساء يوم 7/10/1959.
إن فشل محاولة الاغتيال دفع عبد الكريم قاسم إلى مزيد من الإجراءات الفردية التي دفعت العراق إلى حالة من الإرهاب والفوضى لم تتوقف حتى إعلان ثورة  8 شباط 1963.
2- على الصعيد الخارجي:
كان الموقف بعد ثورة 14تموز يشير إلى نتيجة منطقية هي التعاون أو التحالف أو الاتحاد والوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، بيد ان سياسة عبد الكريم قاسم أخذت منحى أخر مختلفاً عبر رفضه الوحدة وإبدالها بمشروع الاتحاد الفدرالي تحت مبررات خلق الظروف الموضوعية للوحدة وطرح شرطاً تعجيزياً مؤداه «ان الانضمام النهائي إلى الجمهورية العربية المتحدة يتقرر بإطار سياسة الوحدة العربية لجميع الأقطار العربية».
وفي الوقت الذي عادى فيه عبد الكريم قاسم العناصر والقوى الوحدوية داخل العراق، فأنه أرضى بريطانيا والولايات المتحدة وزرع فيهما الثقة بأن الخوف من انضمام العراق إلى الجمهورية العربية المتحدة أمر لا مبرر له، ومن ثم فأن بالإمكان التعامل مع الإدارة الجديدة والاعتراف بالوضع الجديد في العراق.
ومع تصاعد الصراع الداخلي بين القوى والأحزاب، تصاعدت لهجة عداء عبد الكريم قاسم للجمهورية العربية المتحدة ورئيسها عبد الناصر متهماً عبد الناصر بالتدخل في الشؤون الداخلية للعراق والتآمر على الثورة.
وفي الوقت نفسه سعى بدعم من الحزب الشيوعي إلى تطوير علاقاته مع الاتحاد السوفيتي ووقع اتفاقية التعاون بين البلدين عام 1959التي تضمنت شراه معدات لعدد من المعامل الإنتاجية والتصاميم الهندسية المدنية للمشاريع وتنفيذها فضلاً عن تزويد القوات المسلحة بالأسلحة والمعدات وغيرها.

ثورة رمضان ونهاية عبد الكريم قاسم
بعد اتضاح الانحراف الخطير للسلطة عن المبادئ والأهداف المعلنة لثورة 14 تموز وبعد تراكم الأخطاء، بدأت قوى المعارضة بالعمل الجاد لإسقاط الحكومة وتسلم السلطة. ولان تلك القوى دخلت مرحلة الصراعات فيما بينها كما ذكر سابقاً، فإنها وجدت من الصعوبة إعادة توحيد جهودها بسبب تكوين، تلك القوى من جهة وتأثرها بالوضع السياسي العربي إذ ان غالبية القوى القومية عدا حزب البعث كانت تدور في محور السياسة الناصرية في حين انفصل حزب البعث ممن هذه السياسة بفعل فشل وحدة 1958وانفصال 1961وتحميل البعث عبد الناصر أسباب انتكاسة الوحدة.
وفي ضوء ذلك، ولكون حزب البعث العربي الاشتراكي يشكل القوة الأساسية في الشارع السياسي في العراق فقد بدأ بالتخطيط للثورة في بداية 1992. إذ شرع في تشكيل خلاياه المسلحة منذ 14تموز 1962 وتسليحها وتجهيزها وتحديد مسؤوليتها، رقد اعتمد على عناصره العسكرية في جمع وتخزين الأسلحة وتهيئتها للثورة.
وعلى صعيد الجيش، تم تكوين مكتب مسكري من العناصر الحزبية في الجيش وتنظيم عدد من الضباط ومنهم ذوو الرتب الكبيرة من البعثيين وذوي الاتجاهات القومية المعادية للزعيم الركن عبد الكريم قاسم وتم تشكيل مكتب إعداد الثورة، وبعد تحديد عدة مواعيد للثورة، حدد أخيراً يوم الثامن من شباط 1963موعدأ لتنفيذها.
وفي ضوء ذلك، تعد ثورة 14رمضان ثورة شعبية أسهمت فيها الفصائل المدنية والعسكرية المدعومة من الجماهير التي خرجت مؤيدة للثورة واستحقت معها وصف «عروس الثورات».
أعلنت قيادة الثورة في الساعة التاسعة والدقيقة العشرين من صباح يوم 8شباط (1963- 14 رمضان 1382هـ)  بيانها الأول أكدت فيه ان هدف الثورة هو مواصلة مسيرة 14تموز الظافرة التي لابد لها من انجاز هدفين:
1- تحقيق وحدة الشعب الوطنية
2- تحقيق المشاركة الجماهيرية في توجيه الحكم وإدارته.
ولانجاز هذين الهدفين لابد من إطلاق الحريات وتعزيز مبدأ سيادة القانون.
وفي صباح 15رمضان / 9شباط أذاع راديو بغداد تأليف المجلس الوطني لقيادة الثورة وتخويله ممارسة السلطة العليا للجمهورية العراقية بما فيها السلطة التشريعية وصلاحيات القائد العام للقوات المسلحة وانتخاب رئيس الجمهورية.
ثم أذيع البيان رقم (16) في ذات اليوم والساعة أعلن فيه حل مجلس السيادة وإعفاء رئيسه وأعضائه من مناصبهم.
ثم أذيع البيان رقم (17) الذي أعلن انتخاب عبد السلام عارف رئيسا للجمهورية العراقية من بين صفوف المجلس الوطني لقيادة الثورة، ثم أعلن المجلس الوطني لقيادة الثورة القرار رقم (18) الذي تضمن تأليف الحكومة المؤقتة برئاسة الزعيم (العميد) احمد حسن البكر.

مسيرة الثورة
تركزت سلطة ثورة 14رمضان في المجلس الوطني لقيادة الثورة الذي انحصرت فيه السلطتان التشريعية والتنفيذية ومنها ممارسة صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة، مما مكسر مبدأ القيادة الجماعية.
ميثاق 17 نيسان 1963
سعت الثورة إلى تحقيق احد مبادئها الأساسية المعلنة في بيانها الأول وهو العمل على استكمال الوحدة العربية، ساعد على ذلك  سقوط حكومة الانفصال في سوريا وقيام حركة 8أذار 1963التي كآن للبعث دور ريادي فيها. وقد جرت بين الدول الثلاث محادثات على ثلاث مراحل من 14 آذار إلى 17نيسان 1963انتهت بالتوقيع على ميثاق 17نيسان الذي لم ير النور بسبب الخلافات التي نشبت بين قيادة مصر من جهة وقيادتي العراق وسورية من جهة أخرى فأعلنت مصر انسحابها من الميثاق. وقد سعى العراق لإنقاذ الموقف الناشئ عن فشل صيغة الاتحاد الثلاثي، فاتفق على مشروع وحدة عراقية - سورية أعقب ذلك إعلان الوحدة العسكرية بين البلدين يوم 8/10/1963بيد ان ذلك لم يتعد مستوى الإعلان حتى 18تشرين موعد الانقلاب العسكري في العراق.

ردة تشرين الثاني 1963
انعقد المؤتمر القطري لحزب البعث في العراق في 5/1/1963وعقد مؤتمر قطري استثنائي آخر في 11/11/1963، وفي هذين المؤتمرين برز على نحو واضح ان شرخاً كبيراً قد حدث في حياة الحزب الداخلية من جهة، وبينه وبين قيادة السلطة من جهة أخرى، وان دور الحزب القيادي للدولة لم يتحقق، وان عبد السلام عارف قد تنكر لفضل الحزب في تعيينه رئيسا للدولة بوصفه من قادة ثورة 14تموز دون ان يكون له دور في ثورة 14رمضان.
وفي ضوء ذلك هر العراق منذ 13/11/1963حتى 18/11/1963بحالة من الحيطة والترقب واحتمال اندلاع حرب أهلية وفي هذه الظروف، استطاع عبد السلام عارف ان ينجز مهمته في 18/11/1963وتعرض مناضلو حزب البعث العربي الاشتراكي للمطاردة والسجن ومر العراق بحالة سادت فيها أجواء الحكم الفردي حتى ثورة 17-30 تموز 1928.

2- نظرة اقتصادية اجتماعية لأوضاع العراق حتى 1958
عرف العراق لدى الدول الأوروبية باسم بلاد ما بين النهرين (Mesopotamia) أي البلاد التي تقع بين الأنهار. وهو يشتمل على وادي دجلة والفرات وعلى مناطق جبلية وصحراء واسعة تمتد حتى سوريا والأردن. ففي الشمال تفصل جبال طوروس بين العراق وتركيا، وفى الشرق تقوم مرتفعات زاجروس والبختيارية بين العراق وإيران، وفي الغرب تفصل حدود مصطنعة بينه وبين سوريا والأردن، وفي الجنوب والجنوب الشرقي تجاور العراق كل من السعودية والكويت.
والعراق بلد زراعي بالدرجة الأولى ينتج محاصيل القمر والشعير، والأرز، والتبن، والقطن بكميات كانت تفي بحاجة سكانا وتفيض عنها في بعض الأحيان، كما انه يحتل المركز الأول بين دول العالم في إنتاج التمور إذ انه يزود أسواق العالم المختلفة بنحو 80 في المائة من احتياجاتها.
ويعكس تركيب شعب العراق، الذي بلغ تعداده عام 1957(6.338.000) مليون نسمة، تعدداً قومياً ودينياً وتنوعاً في التشكيل الاجتماعي. ففي المراق هناك أكثر من قومية إذ إلى جانب العرب يوجد الأكراد والتركمان، وفي هين تبلغ نسبة العرب نحو 80في المائة من مجموع السكان. تشكل القوميات الأخرى العشرين في المائة المتبقية.
ويدين 95في المائة من شعب العراق بالإسلام في حين تشكل الديانات الأخرى الـ (5) في المائة المتبقية. وترتب على التعدد ( القومي الديني) تعدد في اللفات أيضاً: ففي حين يتكلم أربعة أخماس العراقيين اللغة العربية يتكلم الأكراد اللغة الكردية، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأقليات الأخرى. غير ان هذا الوضع لم يحل دون تمتع العراقيين بالمساواة في الحقوق، بل الانصهار في بوتقة واحدة هي بوتقة الوحدة الوطنية العراقية.
وفي الإطار الاجتماعي تميز المجتمع العراقي الحديث بوجود طبقتين رئيستين هما طبقة الإقطاعيين التي ضمت شيوخ العشائر المسيطرين والمالكين الحقيقيين للأراضي الزراعية، وطبقة الفلاحين الذين حرموا من ملكية تلك الأراضي واعتمد أفرادها في تحصيل معيشتهم على الإسهام، فقط، في عملية الإنتاج الزراعي. أما الطبقة الوسطى التي يتركز وجودها في المدن الرئيسة وضمت في صفوفها شرائح الموظفين المشكلين للجهاز الإداري للدولة وصفار التجار والفنيين - فأنها كانت طبقة لم ترتبط مصالحها بمصالح الفلاحين لتشكل قوة سياسية ذات فعالية ظاهرة. أنها شكلت فيما بعد، الرأي العام الذي كان ينتقد ويطالب بالإصلاح، إلا ان قدرتها على الوقوف في وجه الطبقة الحاكمة وحلفائها من الإقطاعيين كانت في مهدها.
هكذا بات من الصعب جداً وغاية في التعقيد صعود الطبقات الدنيا السلم الاجتماعي، لبؤس هذه الطبقات وجهلها.. ولان معظم الامتيازات كانت تأتي عن طريق الوراثة وليس عن طريق العلم والعمل. لقد كان بنيان العقلية يقوم على التسليم سلبياً بهذا الواقع الاجتماعي، وظل هذا التسليم قائماً فترة. فالسلوك الاجتماعي كانت تسيره ضوابط عادات وتقاليد متزمتة، ويتحكم النظام القبلي في عقلية الأفراد ومصائرهم دون ان يكون هناك أي مكان لتكافؤ الفرص بل حتى لمجرد المبادأة في أي ميدان. فمعيار المركز الاجتماعي لا يتشكل نتيجة للنشاط الاقتصادي أو نتيجة للاقتصاد العلمي والمهني بل تبعاً للوراثة والخضوع للتقاليد.
هذا الوضع يدفع إلى التذكير بان الفلاحين الذين لم يملكوا أرضاً كان عددهم قرابة 648ألف فلاح أي نحو80 في المائة من المشتغلين بالزراعة. أما الملاك الصفار والمتوسطون فعلى الرغم من أنهم مثلوا 98 في المائة من مجموع الملاك الزراعيين إلا أنهم لم يملكوا إلا أقل من ثلث مساحة الأراضي الزراعية، ومع ذلك فإن 13في المائة من مجموع هؤلاء الملاك كانوا يستحوذون على نحو خمسة ملايين دونم أو نحو 31.5 في المائة من مجموع مساحة الملكية الزراعية، بينما لا يسيطر 86.1 في المائة من مجموع الملاك الصفار إلا على 2.4مليون دونم أو على عشر الأراضي الزراعية، في حين، وبالمقابل، نجد ان هناك 3418من الملاك الكبار والإقطاعيين، أو ما نسبته اثنان في المائة من مجموع الملاك الزراعيين، يملكون، نحو 15.8مليون دونم أو نحو 98في المائة من مساحة الأراضي الزراعية. وتشير الأرقام إلى ان خمس الملكيات الزراعية الكبيرة (أي نحو 3.225.000 مليون دونم) كانت تعود إلى 95مالكاً كبيراً، وهناك عائلات إقطاعية تملك ما يزيد على ربع مليون دونم، بل أكثر من نصف مليون دونم أحياناً، ومثل هذه الملكيات يمكن ان توصف بأنها جوهر الإقطاع العشائري في العراق.
ويمكن القول ان هناك من الملاك الكبار من كان ينتسب، أيضاً، إلى البرجوازية الكبيرة والى كبار موظفي الدولة في المدن، وكان يقف على رأس مثل هذا الإقطاع (المدني) الأسرة المالكة وعائلات محددة ومشخصة.
ولاشك في ان سياسة الدولة هي التي كانت وراء تجريد الفلاحين من جميع حقوقهم ومنح الملاك إياها من منطق ان من دون طبقة من كبار الملاك العشائريين يستعبدون الفلاحين ويستثمرونهم لا يمكن ان يدوم الحكم وتتحقق المصالح الاستعمارية مدة طويلة، وعلى أساس ان ربط البرجوازية الكبيرة في المدن، وعلى الأخص كبار رجال الدولة والتجار، بالأرض وبالإقطاع سيعزز السند الاجتماعي الذي لا تستطيع القوى الاستعمارية بدونه حكم البلاد واستغلال ثرواتها.
لقد كان من الطبيعي ان ينعكس هذا الوضع الاجتماعي- الاقتصادي على الأوضاع السياسية السائدة في العراق، فنجد تباينا في المواقف السياسية من تلك الأحداث التي كان يشهدها المسرح السياسي، ففي حين ترتبط الطبقة المالكة، بفعل دعم السلطة لها وتدعيم مواقعها الاقتصادية والسياسية، مصيرياً بنظام الحكم وتجعل من نفسها الأداة التي تستخدمها السلطة ضد أي حركة سياسية معارضة تتبنى مسألة تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية السائدة أو تطالب بالإصلاح، نجد الطبقة الثانية (غير المالكة) على النقيض من ذلك، كانت متحفزة، بفعل حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة للانتفاض على الواقع، ومستعدة، تماماً، لتقبل أي حركة سياسية تتبنى قضية تغيير الأوضاع السائدة وتطرح أمامها شعارات أو هدف تحسين أحوالها الاقتصادية.
إن تاريخ العراق الحديث وان لم يعكس لنا، بوضوح، مدى القوة التي كانت تتمتع بها هذه الطبقة، إلا ان الانتفاضات التي قامت بها في فترات زمنية متفاوتة كانت دليلاً كافياً على مدى استعداد أفرادها لانتهاز أي فرصة لإحداث التغيير.
إن الإحاطة بتطور الأوضاع السياسية والاقتصادية في العراق منذ عشرينيات هذا القرن تقتضي بحث مرحلتين رئيستين أولاهما هي تلك التي خضع فيها العراق للانتداب وكان فيها تحت الهيمنة المباشرة لبريطانيا، والثانية هي ما تعرف أو تسمى بمرحلة الاستقلال الوطني.

أولاً: مرحلة الانتداب البريطاني
ترتب على ثورة عام 1920 الوطنية إنهاء الحكم العسكري المباشر للعراق وتسليم بريطانيا بإقامة حكم وطني تحت إشرافها. فتقرر تأسيس نوع من الحكم الذاتي يتكفل المحافظة على المصالح البريطانية في الشرق الأوسط ويرضي، إلى حد ما، مطالب العراق الثائر، ويحقق التزامات بريطانيا تجاه عصبة الأمم التي منحتها الانتداب. وانتدبت بريطانيا لهذه المهمة (بيرسي كوكس) فعينته مندوباً سامياً لها في العراق، فتمكن من تشكيل حكومة مؤقتة برئاسة شريف نقباء بغداد (عبد الرحمن النقيب) ليبدأ بعدها التهيؤ لتسليم السلطة إلى العراقيين بالتدريج لتفضي إلى قيام نظام حكم ملكي على قواعد دستورية محددة.
تبعاً لذلك قررت السلطات البريطانية، كخطوة لاحقة، ان تضع على رأس الحكم الوطني في العراق شخصية يضع فيها الرأي العام ثقته، ويكون راغباً في التعاون مع بريطانيا لحفظ مصالحها فيه.
وفي أثناء ذلك تقوض الحكم العربي في  سوريا، وتوجه الملك فيصل إلى أوربا طالبا العون منها، ونظراً إلى المكانة المرموقة التي كان يتمتع بها الملك المخلوع لدى الانكليز، وتعويضاً له عن عرشه الذي فقده في سوريا، قررت الدوائر السياسية البريطانية المعنية تنصيبه ملكاً على العراق. وتحقيقاً لهذه الخطوة اتخذ مؤتمر القاهرة المنعقد في آذار/ 1921قراراً بالإجماع يقضي بأن فيصل هو الرجل الذي يقترحه المؤتمرون للجلوس على العرش العراقي، وأمر بيرسي كوكس، بوصفه مندوبا ساميا لبريطانيا في العراق، بتحقيق ذلك.
ولتنفيذ هذا القرار دعا كوكس الملك فيصل بن الحسين إلى العراق ثم قررت وزارة عبد الرحمن النقيب في 11/ تموز/ 1921المناداة به ملكاً على العراق شرط ان تكون حكومته دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون، واقترن هذا الإجراء بقبول العراقيين إياه في استفتاء اجري في وقت لاحق من تموز حصل فيه فيصل على نسبة 97في المائة من أصوات لمستفتين، وبذا أعلن القبول به أول ملك للدولة العراقية "الديمقراطية".
أما الخطوات اللاحقة التي اتخذت لإرساء قواعد النظام السياسي الجديد فكانت: تتويج الملك فيصل ملكاً على العراق في 23/7/1921 ثم إلقاءه خطاباً تعهد فيه بأن أول عمل سيقوم به هو أجراه الانتخابات النيابية وجمع المجلس التأسيسي للتصديق على الدستور الذي سيوضع بمشورته. وفي 8ا/آذار/ 1924 صدر قانون المجلس التأسيسي الذي تحددت مهامه في البت بالمعاهدة العراقية - البريطانية وتدقيق لائحة الدستور، وتشريع قانون الانتخاب.
وقد اقر المجلس التأسيسي المعاهدة في ظل ظروف صعبة ومعقدة عكست أجواء التهديد بإعادة الحكم البريطاني المباشر إلى المراق، كما نوقش الدستور وأقر في العاشر من تموز/ 1924، ثم صدر قانون الانتخاب عقب ذلك بعدة شهور.
وفي 21/ آذار/ 1925صادق الملك على الدستور وأمر بوضعه موضع التنفيذ. واجتمع مجلس الأمة العراقي أول مرة في ظل النظام البرلماني الجديد في 16/ تموز/ 1925.
ومع استكمال الأطر الدستورية بدأت مرحلة جديدة في تاريخ العراق وتطور، السياسي الحديث إذ لم يحل تتويج الملك فيصل، وقيام المملكة العراقية دون بقاء بريطانيا، دولة قابضة على زمام الحكم، وبقاء المندوب السامي رئيساً فعلياً للحكومة. وقد أثار هذا الوضع مشكلة إن كان العراق دولة مستقلة أو ان استقلاله هو محض ستار رسمي للنفوذ البريطاني الحقيقي.
ففي حين عد العراقيون ماجاه في خطاب الملك في حفل تتويجه دليلاً على قيام دولة العراق المستقلة التي لا تتعدى علاقتها ببريطانيا علاقة المشورة والاستعانة، عدت بريطانيا نظام الحكم الجديد هو الصورة المنشودة للانتداب الحقيقي بطريقة غير مباشرة يحقق لها الامتداد اللازم لنفوذها دون ان يفرض ذلك الاحتكاك المباشر بشعب العراق.
من هذه النقطة بدأ الصراع بين العراقيين، الذين أرادوا ان يكون نظامهم السياسي الجديد عربياً في الظاهر والباطن، والانكليز الذين أرادوا ان يكون هذا النظام عربي المظهر بريطاني الجوهر.
وعندما لمست بريطانيا عمق كره العراقيين نظام الانتداب صاغته بمعاهدة (هي معاهدة عام 1922) نظمت أسس العلاقة بين الدولتين وضمنت هيمنتها المطلقة على العراق بموجب بنودها الجائرة العديدة.
ومع ان هذه المعاهدة أبدلت عام 1929، واستعيض عن هذه الأخيرة بمعاهدة أخرى عام 1127، فإن معاهدة 30/ حزيران /1930 كانت آخر المعاهدات في هذه السلسلة إذ تقرر بموجبها عقد حلف أمده خمسة وعشرون عاماً بين بريطانيا والعراق، وتأييد عزم بريطانيا على إدخال العراق عصبة الأمم المتحدة عام 1932، وإعلان استقلاله وانتهاء مسؤوليات الانتداب البريطانية فيه اعتباراً من تاريخ دخوله عصبة الأمم.
لقد استقبل الرأي العام العراقي هذه المعاهدة بعدم ارتياح بلغ حد السخط في  الأوساط المثقفة، فالمعاهدة لم تضف شيئا إلى ما اكتسبه العراق بل زادت أغلاله وعزلته عن الأقطار العربية وباعدت بينه وبين جاراته الأخريات.
ومع ان معاهدة عام 1930 تضمنت إعلان بريطانيا إنهاء انتدابها على العراق من تاريخ دخوله عصبة الأمم المتحدة، وقد تم ذلك فعلاً في الثالث من شهر تشرين الأول / 1932فإن هذه الخطوة لم تكن تعني، واقعيا، انتهاء نفوذ بريطانيا في العراق، بقدر ما كانت تعني إدراك الانكليز حقيقة مؤكدة هي ان تأمين المصالح قد لا يستوجب حكماً مباشراً أو وضع القطر تحت الانتداب وإنما قد يستوجب مساندة وتأييد الحكام الموالين لسياساتها فقط.
وإذا كانت بريطانيا قد جعلت حكمها، خصوصاً بعد عام 1920، حكماً غير مباشر فإنها استعانت من اجل تأمين نفوذها ومصالحها بواجهات عربية للحكم وبطبقة إقطاعية لا يستهان بقوتها.
إن التحالف الوثيق بين القوى الأجنبية (بريطانيا) والقوى السياسية والاجتماعية المحلية ( الملك، العسكريين، الإقطاع) التي خلقتها بريطانيا تشير إلى حقيقة مفادها اتفاق هذه القوى على إتباع أو تبني إستراتيجية عمل سياسي أساسها عدم فسح المجال أمام أي قوى معارضة، مهما كانت درجة معارضتها، تحاول الوصول إلى السلطة بأي حال من الأحوال. بهذا الشكل هيئت الظروف الملائمة لتسليم السلطة إلى ملك يكون تحت سيطرتها، وخلق طبقة سياسية اقتصادية يعمد إليها الحكم في الدولة المستقلة الجديدة لتعقب ذلك صياغة وثيقة دستورية تتضمن عدداً من المبادئ التي تظهر نظام الحكم الجديد كأنه نظام ديمقراطي- نيابي- حر، إذ نص على الحقوق السياسية للأفراد في صلب الدستور، كما نص فيه أيضاً على مبدأ السيادة الشعبية وان الشعب لا يشارك مباشرة في إدارة الشؤون وإنما يقوم بذلك مجلس الأمة نيابة عنه.
وهذه الوثيقة التي صيغت بفعل إرادة أجنبية، وان أقرت عدداً من الحقوق الأساسية للشعب بما يظهر النظام وكأنه نظام ديمقراطي، إلا أنها، مع ذلك، كانت قد هيأت عدداً من الوسائل التي تمكنها من مواجهة أو الحيلولة دون تحقيق هذا المطلب حين قررت:
1- عدم وضع ضمانات معينة للحريات الفردية أو لمظاهر الديمقراطية السياسية التي نص عليها دستورياًَ حين قيدت أو جعلت ممارستها (ضمن حدود القانون). فإذا ما شرع القانون جاء هادماً للمبدأ. وبذا تصبح هذه الحقوق محض إثبات لحقائق فلسفية حسب لا يترتب عليها أي اثر قانوني.
2- تضمين الدستور أحكاماً تجعل من تفوق السلطة التنفيذية (الملك) على عداها من السلطات الأخرى أمراً مفروغاً منه. وقد انعكس هذا التفوق في مظاهر عديدة منها: تمنع السلطة التنفيذية بحق تعيين قسم من أعضاء السلطة التشريعية (مجلس الأعيان) مما يتيح لها حرية الاختيار ومن ثم مل ء هذا المجلس بالإتباع والمؤيدين لها، منح الملك الحق المطلق في التصديق على القوانين، منح الوزارة حق إصدار القوانين بمراسيم دون إقرانها بضمانات تحد من اللجوء إلى هذا الأسلوب باستمرار، منح السلطة التنفيذية حق حل مجلس النواب حتى ثاني يوم من إتمام انتخابه، إناطة حق الفصل في عدم دستورية القوانين بالمحكمة العليا فقط في الوقت الذي يظهر فيه تنظيمها قوة نفوذ السلطة التنفيذية عليها فيما يخص أو يتعلق بتكوينها أو بشروط انعقادها أو إثارة الاختصاص أمامها أو بالنسبة إلى الأثر الذي يترتب على أحكامها.

ثانياً: مرحلة الاستقلال:
تقترن مرحلة الاستقلال، عموماً بإعلان قبول العراق عضواً في المنظمة الدولية التي كانت قائمة آنذاك (عصبة الأمم). والحق ان بريطانيا لم تقدم على اتخاذ هذه الخطوة بالنسبة إلى العراق إلا بعد ان تأكد لها ان بالإمكان استمرار مصالحها الاقتصادية ونفوذها السياسي عن طريق المعاهدات الثنائية بين البلدين.
أما العراقيون فكانوا على الضد من ذلك تماماً، كان مفهوم الاستقلال عندهم يعني ان القابضين على السلة سيكونون غير مقيدين، أو خاضعين، عند تقريرهم أسس سياستهم العامة سواء على الصعيد الداخلي أم الصعيد الخارجي.
ولما كانت بريطانيا قد سلمت مقاليد السلة إلى أعوانها، ونظراً إلى وجود تيارات سياسية وفكرية تعارض السياسة التي انتهجتها هذه العناصر كان من الطبيعي ان تكون إحدى ابرز سمات مرحلة الاستقلال الممتدة حتى عام 1958 هي ظاهرة الصراع وعدم الاستقرار السياسي التي تجلت مناصرها في التنافس الذي كان قائما بين مختلف الشخصيات السياسية لتولي مقاليد الحكم مما قاد إلى تبدلات سياسية مستمرة إذ كانت الحكومات تتشكل و تستقيل في مدد لا تتجاوز الستة أشهر تقريباً، وفي العصيانات المسلحة التي أعلنتها الأقليات والانتفاضات العشائرية، فضلاً من الميل الواضح وملائمة الأجواء العامة السائدة لتدخل قادة الجيش في الشؤون السياسية والتفكير الجاد في السيطرة على السلطة السياسية تحقيقا للمبادئ التي كانوا يؤمنون بها. ان لمحة سريعة إلى انقلاب عام 1976وانتفاضة الجيش عام 1941كفيلة بتأكيد هذا المنحى.
لقد أشرت فترة الحرب العالمية الثانية، وما بعدها، حقيقة خضوع العراق، مجدداً، لوطأة احتلال شديد، حيث تشكلت قيادة خاصة في منطقة شمال العراق وإيران وأصبحت جميع الأراضي العراقية مفتوحة أمام الجيوش البريطانية، واخضع الاقتصاد للرقابة، وأصبحت الملاحة في نهري دجلة والفرات وتشغيل ميناء البصرة وجميع طرق المواصلات الأخرى من اختصاص السلطة العسكرية البريطانية على الرغم من ان العراق كان بعيداً عن جبهات القتال.
وفي الجوانب الأخرى لم يشهد المراق غير مظاهر تطور بطيه جداً، ان لم يكن غير ملموس تماماً، فغي المجال الاجتماعي لم يغير ازدياد عدد المدارس المشيدة في مرحلة الاستقلال من حقيقة استمرار انخفاض مستوى التعليم بوضوح. وقد كشفت إحصائيات الخبراء المتخصصين هذه الحقيقة حين أوضحت ان 80 في المائة من الرجال و95في المائة من النساء كانوا من غير المتعلمين.
أما المجال الصحي فلم يعكس أوضاعاً أفضل من سابقاتها إذ يكفي للتدليل على مظاهر الأحوال الصحية السيئة في العراق الإشارة إلى النقص الحاد الذي كان يعانيه في عدد الأطباء وانتشار الأمراض السارية انتشاراً واسعاً حتى بلغت نسبة المصابين بمرض الدراخوما وحدها 60في المائة من مجموع السكان.
وفي المجال الاقتصادي، انتهجت السلطة العراقية ذات المسلك الذي انتهجه الانكليز إبان حكمهم العراق: خلق طبقة إقطاعية تكون سنداً لها تؤيد سياساتها العامة وتقف في وجه أي مطالبة بالتغيير. ويشرح احد الكتاب الأجانب كيف نجحت السلطة في تحقيق هذه الغاية قائلاً: منذ إعلان الاستقلال عام 1932شرعت السلطات العراقية في حل مشكلة الأرض على أساس الملكية الفردية فكانت النتيجة ان شيوخ العشائر الذين كانوا يقومون سابقاً، في الأقل بحسب القوانين العرفية السائدة، بدور الإدارة والإشراف على الأراضي المزروعة بشكل تعاوني، وهي تخضع لحيازة العشيرة المشتركة، أصبحوا الملاك الوحيدين لأراضي عشائرهم الشاسعة.
لقد ترتب على مثل هذه السياسات أو الإجراءات ان ظهرت طبقتان رئيستان : طبقة مالكة للأرض وأخرى محرومة من ملكيتها يشتغل أفرادها أجراء عند الطبقة الأولى. ونظراً إلى عدم وجود ضمانات تحول دون تشريد هؤلاء الإجراء، كانت ا~ الطبيعية لهذا الوضع سيطرة الطبقة الإقطاعية على طبقة الفلاحين ليس من الناحية الاقتصادية حسب بل من الناحية السياسية أيضاً. فلم يكن أمام الفلاحين من سبيل فير إعطاء ملاك الأراضي ورؤساء العشائر أصواتهم عند إعلان ترشيح أنفسهم لمجلس النواب.
إلا ان هذا الواقع الاجتماعي.. الاقتصادي لم يحل دون تبلور الوعي السياسي وعلى وجه الخصوص بين أبناء المدن الرئيسة، لقد اضطرت السلطة الحاكمة ( منذ عام 1949) إلى إعلان موافقتها على فسح المجال أمام مختلف القوى الحزبية لمزاولة نشاطها السياسي فاتضحت في اثر ذلك إبعاد القوة التي كانت تتمتع بها بين صفوف الشعب والإمكانات التي توفرت لديها، ومدى قدرتها على قيادة جماهيره وتوجيهها.
وبالقدر الذي دفع هذا الواقع الجديد السلطة إلى مطاردة الأحزاب السياسية المعارضة بالعمل على شل نشاطها بتحريم مزاولة عملها أو تعطيل وسائلها المعبرة عن مواقفها وأرائها، اتجهت تلك الأحزاب بالمقابل إلى إتباع وسائل متنوعة حاولت من خلالها ان تؤكد حقيقة استمرار وجودها على المسرح السياسي بإتباعها كل الوسائل التي كفلها القانون لها، فاتجهت إلى التعاون والدخول في ائتلافات سياسية خصوصاً في الفترات التي كانت تشعر ان تحركها مجتمعة سيحقق لها ما تعجز عن تحقيقه إذا ما تحركت منفردة.
وإذا ما أثير تساؤل في تلك العوامل التي أدت إلى استمرار هذا النظام وعدم تداعيه في هذه المدة الطويلة، نسبياً، وإظهاره قدرة واضحة على التحكم في توجيه الأحداث السياسية الجسام التي شهدتها ساحته السياسية فانه يمكن تحديد تلك العوامل بالاتي:
1- سيطرة قلة من السياسيين المحترفين المسنودين بطبقة اجتماعية - هي طبقة الإقطاعيين وكبار الملاك - ودولة أجنبية قوية. لقد ترتب على هذا الوضع ان استمر أولئك الأشخاص أنفسهم على تسيير دفة الحكم ومن ثم تفوق الإرادة الشخصية على المبادئ السياسية في الحكم. ومما سهل مثل هذا الأمر الافتقار إلى وجود تنظيم سياسي فعال قادر على تسلم السلطة وإدارتها بكفاءة واقتدار. وهكذا استطاعت شخصيات معدودة، أو في أحيان كثيرة، شخصية واحدة (كشخصية نوري السعيد) ان تنفرد بالسلطة وتوجه مقدرات السياسة العراقية فترة غير قصيرة.
2-إن وضعاً سياسياً كوضع العراق الذي يعكس تنوعاً اجتماعياً- اثنياً بوضوح جعل نجاح من يسيطر على السلطة مرهوناً بأمر تجانس الطبقة الحاكمة وقد أدركت السلطة ذلك خصوصاً بعد ان شعرت بازدياد قوة تأثير معارضي سياساتها، وتأكد لها ان تنازعها يقود إلى فقدان مركزها القيادي ولهذا فان الحياة السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تعكس لنا سوى بعض ملامح اختلاف في وجهات النظر بين بعض أركان الطبقة الحاكمة. غير ان هذا الاختلاف لم يكن إلا حدثاً عارضاً أو إجراء شكلياً ذهب بعضهم إلى القول إن مثل تلك الاختلافات هي من خلق «معارضة موالية» تقتضيها مصلحة من بيدهم السلطة.
3- القمع السياسي إذ لجأت السلطة إلى استخدام هذه الوسيلة ضد جميع خصومها السياسيين بما فيهم الأحزاب السياسية، وقد جارت بأسلوبها هذا مواقف الحكومات الغربية من الأحزاب ذات النزعة اليسارية (أو الماركسية) حين عدتها أدوات العدوان غير المباشر على أنظمة حكمها. ان تحريم نشاط الأحزاب والمنظمات، والجمعيات، والطلاب، والموظفين، ومعاملتها جميع هذه التنظيمات والقوى بوصفها عناصر مخرباً على الرغم من علم السلطة وقدرتها على التمييز بين القوى المخربة التي تهدف إلى تقويض النظام الاجتماعي والسياسي القائم والقوى التي تطالب بالإصلاح وإدخال الأساليب العصرية في الحكم كان عاملاً مؤثراً في الحد أو التقليل من خطورة هذه القوى، وقدرتها على إثارة المشكلات المربكة للسلطة وممارساتها.
ومع كل ذلك فان الحقيقة التي تبقى شاخصة أمام المتتبع للأحداث هي ان القابضين على السلطة في العراق، وان استطاعوا ان يؤمنوا لانفصم البقاء والاستمرار هذه الفترة من الزمن لم تكن لديهم القدرة ملى متابعة الشوط إلى نهايته، فتحطم بناؤهم السياسي تحت عنف الضربة التي وجهت إليهم صبار 4ا/تموز/1958.
وإذا ما أردنا تحديد تلك العوامل التي قادت إلى ذلك الانهيار فإنها ستتلخص في الآتي:
1- أستمرر الوجود البريطاني وتدبير المؤامرات الاستعمارية: ويمكن تلمس ذلك في أكثر من مظهر، محاولة عقد معاهدة بديلة لمعاهدة عام 1930 (معاهدة بورتسموث) التي أباحت نصوصها ارض العراق برمتها أمام القوات البريطانية بعد ان كانت معاهدة عام 1930 لا تشترط غير تأسيس قاعدتين عسكريتين فقط، والعمل على ربط العراق بمشاريع الدفاع عن الشرق الأوسط، وربطه فيما بعد بحلف بغداد، ودفعه إلى التآمر على سوريا، والعمل على رسم خطط ضمها إليه بالقوة.
2- ظروف الملكية وجنوحها إلى الاستبداد بالسلطة بإساءة استعمال الحقوق الواسعة التي منحها إياها الدستور، وعدم إقرارها بالمطالب الشعبية التي قدمت لها في مدة مناسبات.
3- الأوضاع الاجتماعية للعراق: فتفشي الأمية بنسبة عالية بين صفوف الشعب سهل مهمة الطبقة الحاكمة في التلاعب بإرادتهم، والتأثير في الناخبين، فكان مجلس الأمة (البرلمان) ابعد ما يكون تمثيلاً سليماً لإرادة الشعب الحقيقية.
4- الأوضاع الاقتصادية: فالنظام الاقتصادي كان يقوم على أساس الفصل الجامد بين الطبقات: طبقة الأقلية من الملاك الإقطاعيين الذين أيدوا الملكية ووالوا السلطات البريطانية، وطبقة الفقراء، وهم الكثرة، الذين كانوا يعانون مظاهر الخضوع السياسي والاقتصادي للسادة الإقطاعيين وكبار الملاك.
والحق ان نظام الحكم في العراق لم يكن لينهار عام 1958 لو أدرك واستوعب الحكام عدداً من الحقائق الأساسية الآتية:
الحقيقة الأولى: إن تأمين الاستقرار السياسي لأي نظام سياسي لا يتم إلا إذا استجاب ذلك النظام لإحداث التغييرات التي تتماشى مع الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثورات الفنية التي تعيش فيها هذه الظروف مجتمعة.
فالنظام السياسي إذا تخلف عن التغيير فقد عنصر المرونة فيه، ومن ثم فتح الباب على نفسه أمام طريق العنف السياسي أياً كانت صورته لإحداث هذا التغيير الذي تستوجبه الطبيعة والمناخ السياسيان ويفرضه تطور الظروف المختلفة وتستلزمه الثورات الفنية التي يحياها عالمنا المعاصر.
ونظام العراق السياسي في الفترة المبحوثة لم يستطع تجسيد الارتباط والتداخل بين ما يجب ان يكون وما عليه الحال من ترجمته إلى قرارات لزوم التغيير في طبيعته السياسية، لهذا لم يستطع الاستمرار فترة أطول.
الحقيقة الثانية : إن محاولة الاحتفاظ بالأوضاع القانونية التي تكفل للطبقة الحاكمة مصالحها، وقمع الحركة الوطنية لمنع انتقال السلطة إلى ممثلي الشعب الحقيقيين لا تؤدي إلى أي نتيجة ايجابية، لأنه ان أمكن المحافظة على الأوضاع القانونية جامدة فليس بالإمكان تجميد النظم الاجتماعية ومنعها هن التغيير، إذ لا يمكن المحافظة على الأوضاع الاقتصادية التي تقرر الأوضاع الاجتماعية دون ان تتطور، طبيعة الحقيقة الاقتصادية مبنية على الحركة، والعالم يتحرك على الدوام، وزوال القديم، ونشوه الجديد هو قانون التطور. وقد فات السلطة الحاكمة ان تدرك ان المجتمع العراقي في تحول على الرغم من محاولاتها الحفاظ على الأوضاع فيه.
فبعد ان كان هذا الشعب يقف من الأحداث السياسية موقف المتفرج غير المبالي، أحياناً، أصبح، وعلى الأخص منذ خمسينيات هذا القرن، من العيوب التي تهتم بجميع الأحداث السياسية التي كانت تقع في مختلف أرجاء العالم، وكان هذا التحول صدى لتلك الأحاسيس الجياشة والوعي المتنامي حيال السياسة المطبقة داخلياً.
والحق ان قوة الوعي السياسي التي شهدها العراق لم تكن نتاج الحرب العالمية الثانية أو أنها نشأت على نحو مفاجئ، بل ان نشأتها كانت قبل ذلك التاريخ ولم تفعل الحرب غير توسيع أمداء نطاقها وتركيزها في النفوس. وعندما انقسم العالم بعد تلك الحرب إلى معسكرين متنازعين انعكس صدى ذلك الصراع على العراقيين أيضاً. فانقسموا، تبعاً لذلك، بين مؤيد لذلك المعسكر أو معارض له.
الحقيقة الثالثة: إن ما ذكر آنفاً يعني ان السلطة الحاكمة لم تدرك ان محاولة تجميد القوالب القانونية التي تؤمن لها مصالحها لا تستطيع ان تمنع النظام الاجتماعي الجديد من الظهور وإذا حالت دون ولادة هذا النظام بصورته الطبيعية فأنها بهذا تدعو إلى الثورة لأنه عندما يتعذر على القوالب القانونية ان تتطور بالسرعة نفسها التي تتطور بها الحقيقة الاقتصادية تنفرج هوة سحيقة بين النص القانوني والواقع، والتفاوت بين الحقائق الاقتصادية والقوالب القانونية يؤدي حتماً إلى تأزم تناقض لا يحل إلا عن طريق الثورة لإعادة تنظيم الروابط القانونية.

الفصل السادس
النظام السياسي

يؤكد ميثاق الأمم المتحدة ان الدول يتماثل بعضها مع بعض قانونياً، وقد جسد مبدأ لكل دولة صوت هذه المساواة.
بيد ان هذا المبدأ يلفي موضوعياً ان الدول تختلف عن بعض في إمكانياتها الذاتية ومن ثم قدرتها على التأثير الدولي.

إن هذا الواقع افرز إشكالية التماثل والاختلاف بين الدول. وبسببها ذهبت آراء إلى حصر الفاعلية بالدول العظمى أو الكبرى دون سواها.
إن الموضوعية ترفض التعميم. فالتاريخ، وان تأثر، على مر الزمان، بحركة دول توافرت على إمكانيات خاصة جعلتها فاعلة مقارنة بغيرها، بيد أنها، مع ذلك، لم تستطع احتكار صناعته. فخبرة التاريخ لا تفيد ان الدول الصغرى كافة كانت دمى صماه تحركت على وفق مصالح وسياسات سواها. فبعضها في الأقل، امتلك قدرة التأثير حتى في سياسات الدول العظمى أو الكبرى. في بسبب هذه القدرة اقترن التاريخ بتجارب أكدت مصداقية مقولة قوة الضعف وضعف القوة.

ويقدم العراق، بعد العام 1968، أنموذجاً لمحصلة حركة دولة صغرى تقودها ثورة وطنية وقومية وإنسانية كبرى.
وغني عن البيان ان التاريخ يقترن بكثرة الثورات التي فجرها الرافضون عبر الزمان، ولكن أيضاً بقلة الثورات التي استطاعت ان تصمد أمام كوابحها الداخلية والخارجية، وان تعمد إلى إثراء التاريخ الإنساني بتجربتها ودلالاتها.

وينسحب هذا التعميم على الوطن العربي بالضرورة. فمنذ بداية هذا القرن، في الأقل، والتطور التاريخي لبعض الأقطار العربية لم يكن بمعزل عن الثورات التي اندلعت فيها. بيد ان معظمها لم يستطع، لأسباب موضوعية أو ذاتية، الارتقاء بنوعية استجابته إلى مستوى التحديات التي جابهتها لذا ت كلت من داخلها وانتهت إلى الفشل.

على ان هذا الواقع العربي لا يعكس إلا جانباً واحداً من عموم الصورة، فالتاريخ العربي المعاصر يعبر، في الوقت نفسه، عن ثورات أخرى لم تستفد من تجربتها الذاتية وتجارب غيرها في تجديد مضامين حركتها حسب، وإنما خاضت أيضاً كفاحاً تحررياً في منطقة عالية الحساسية الدولية لغاية قوامها بناء موازين قوى جديدة تساعد على تحقيق أهداف المشروع الحضاري النهضوي العربي.

وتعد ثورة 17-30تموز من بين أبرزها، لأسباب أساسية. ومثالها، أولاً، أنها استمرت عبر الزمان، تعبر عن أنموذج لثورة امتلكت القدرة على إفشال سياسات قوى الاستعمار القديم والجديد وأهدافها في تدجين الثورات الوطنية الكبرى في العالم الثالث وإرغامها على الانكفاء والتراجع والفشل، وثانياً، أنها استطاعت الانتقال نوعياً بدور العراق إلى تلك الآفاق التي أدت إلى ان يتجاوز الحدود المرسومة، ضمناً أو صراحة، لحركة العالم الثالث. ولم يكن ذلك بمعزل عن إرادتها في استنهاض إرادة الحياة والبناء والنهوض.

إن هذا النموذج يقدم دليلاً مضافاً لم يكن امرأ سهلاً ويسيراً، فالأوضاع التي ورثتها ثورة 17-30 تموز 1938والمواقف الخارجية المعادية، وان أفرزت تحديات متنوعة ذات آثار متباينة، بيد أنها،بالمقابل، أفضت إلى استجابات حضارية ارتقت إلى مستواها. ومن بينها بناء نظام سياسي فاعل أضحى يشكل إحدى ركائز الفاعلية الداخلية للعراق ومن ثم فاعليته الخارجية م وهذه هي الفرضية التي نريد البرهنة علميا عليها.

ولهذا الغرض، سننطلق من معيارين هما: المعيار الكمي الذي يعبر عن اثر العمر الزمني للثورة. فالثورات الأقدم تكون بالضرورة أكثر خبرة وقدرة على التفاعل مع تحدياتها والمعيار الكيفي أيضاً الذي يقترن بانجازاتها.

وتبعاً لذلك سنعمد فيما بعد إلى: أولاً، تحديد مفهوم النظام السياسي بإيجاز شديد، وثانياً، تشخيص ابرز تحديات النظام السياسي في العراق بعد العام 1968، وثالثاً، تناول الانجازات التي حققها ولاسيما على صعد تثبيت السلطة الوطنية وترسيخها، وتعزيز الاستقلال السياسي، وتأمين الوحدة لوطنية، فضلاً عن بناء المؤسسات السياسية المستقرة.

مفهوم النظام السياسي

لقد حظي تحديد مفهوم النظام السياسي، منذ القدم باهتمام مكثف. وقد افرز هذا الاهتمام اتجاهين : تقليدي وآخر معاصر.
ذهب الاتجاه التقليدي إلى ربط النظام السياسي للدولة بنظام الحكم فيها، كما يوضحه دستورها، سواء أكان عرفياً أم مكتوباً. أما الاتجاه الثاني فقد أدرك ان النظام السياسي، كجزء من النظام الاجتماعي العام، لا يقتصر على الأبنية الدستورية (الرسمية) وإنما يشمل أيضاً الأبنية السياسية غير الرسمية، فضلاً عن تفاعلاتها المتبادلة.

ولكل من هذين الاتجاهين العامين أنصاره وخصومه، وكل منهما يسوق عدداً من الايجابيات والسلبيات، لسنا بصددها هنا، لهذا الاتجاه أو ذاك.
ومع ذلك نرى ان الدراسة الشمولية لأي نظام سياسي لا تستطيع إغفال الإطار الدستوري للنظام السياسي، فهو فاعل، أو تجاوز واقع حركته العملية ولاسيما انه يؤشر مدى كفاءة أدائه لذا يبقى كل منهما يكمل الآخر.

تحديات ثورة (17-30) تموز 1968

تباينت نوعية هذه التحديات من وقت إلى آخر، فالثورة، فضلاً عن أنها ورثت وضعاً داخلياً متأخراً، فإنها جوبهت بمواقف خارجية معادية. لذا نستطيع توزيع هذه التحديات علي مستويين: داخلي وخارجي.

التحديات الداخلية:
تعددت وتنوعت هذه التحديات. وسنشير إليها بإيجاز على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والقيادية.
فاقتصادياً، يعد العراق دولة تنفرد بثرائها إنه... البلد الوحيد في المشرق القادر على الاكتفاء الذاتي، فهو يجمع النفط (والمعادن غير الوقودية) إلى المياه إلى السكان... بيد ان عوامل التأخر والتبعية الاقتصادية والسياسية لم تشهد استثمار خيرات العراق في العهد الملكي كما ان الاستثمار الناقص في الأقل للثروة الطبيعية على مدى عقد (1958- 1968) لم يؤد إلى نجاح خطط التنمية المعلنة آنذاك.

وتبعاً لذلك بقي العراق فقيراً على الصعيد الداخلي ومن ثم ضعيف التأثير على الصعيد الخارجي.
وأما اجتماعياً، فغني عن البيان ان تركيبة العراق الداخلية تميزت، منذ القدم، بتنوعها وتعددها وكان لها متى العام 1928 تأثير مهم تجسد في معاناة العراق عموماً من نقص التآزر والتجانس بين اغلب شرائحه الاجتماعية، وانعكاساته السلبية على وحدته الوطنية. وتبعاً لذلك تعززت المسالك الداخلية التي ساعدت القوى الخارجية المعادية على تكريس عدم الاستقرار الداخلي وتوظيف مخرجاته لمصلحة أهدافها.
فسلبيات التركيبة الاجتماعية للعراق آنذاك انعكست على دوره الخارجي، إذ رفدت ضعفه بعنصر مضاف.

وأما عسكرياً، فلم يؤد حرص النظم السياسية التي تعاقبت على إدارة العراق حتى العام 1968 على الارتقاء بقدرة الجيش العراقي إلى جعله قوة مؤثرة. ولم يكن ذلك بمعزل عن تأثير متغيرين مهمين، أولهما ضالة قدرته المالية. فهذه لم تسمح للعراق بالإنفاق العسكري الواسع، وثانيهما، ان تبعية العراق طوال العهد الملكي، للغرب جعلت عملية الارتقاء بالقدرة العسكرية للعراق أسيرة للإرادة الغربية ومصالحها. صحيح ان هذه القدرة تطورت بعد العام 1958، بيد ان ذلك لم يؤد إلى ان يكون العراق فاعلاً عسكرياً. وتبعاً لذلك كان استعداده لمواجهة التهديد العسكري الخارجي للأمن الوطني العراقي والأمن القومي  العربي محدوداً.

وأخيراً افتقر العراق إلى القيادة السياسية التي تتوافر على تلك الخصائص التي تتيح للدولة فرص الارتقاء الحضاري، فالقيادات السياسية التي تعاقبت على إدارة العراق حتى العام 1998كانت تتصرف إما تحت تأثير تبعيتها للغرب، وإما تحت تأثير افتقارها إلى التصور الاستراتيجي الشامل، في الأقل.
والتاريخ يشير إلى ان الدولة، أي دولة، لا تستطيع الارتقاء بمعزل عن جهد قيادتها.
إن الثغرات والاختلالات الهيكلية التي انطوى عليها الجسد العراقي حتى العام 1968 وتراكم آثارها على امتداد الزمن جعلت العراق ضعيفاً في الداخل وضئيل التأثير في الخارج. لذا فحين اندلعت الثورة في العام 1998كان عليها التعامل مع تركة موروثة سلبية المضمون والأبعاد تفاعلت مع تحديات خارجية حقيقية.

التحديات الخارجية
منذ القدم، والعالم الثالث محط تكالب استعماري كان يتجدد في أدواته. ومرد ذلك أهميته الاقتصادية والإستراتيجية، ودور توظيفها من جانب الدولة (أو الدول) المسيطرة عليها في دعم رفاهيتها الداخلية ومكانتها الخارجية. ولهذا عملت على الحيلولة دون بزوغ تلك الأوضاع، في العالم الثالث، التي تهدد هذه السيطرة، وبضمنها رسم تلك الخطوط الحمر التي لا يجوز لدول هذا العالم، تجاوزها.

وتقترن هذه الأوضاع وتلك الخطوط بمضامين مشاريع حضارية تتطلع إلى إلغاء التخلف والتبعية والانكشاف، ومن ثم إلغاء الثغرات الداخلية التي اعتادت قوى الاستعمار القديم والجديد توظيفها لمصلحتها. ومن هنا نبعت مناهضة هذه القوى لكل مشروع تحرري جذري في العالم الثالث، ودفعه إلى الفشل.
وبسبب من مبادئها وأهدافها وممارساتها العملية، فقد كانت ثورة 17-30 تموز 1968، ومازالت، ابرز الثورات الكبرى في العالم الثالث التي استهدفتها الحركة الأميركية - الغربية المشتركة. لذا يقول القائد صدام حسين :"والله منذ أن تسلمنا السلطة حتى اليوم والمؤامرات تحاك ضدنا باستمرار... وكلما وضعنا أنفسنا لخدمة هذه الأمة وخدمة هذا الوطن ازدادت المؤامرات الخارجية شراسة وخطورة".

ومما ساعد على ذلك انتقال الإدراك الأميركي خصوصاً للعراق من حال إلى أخر مختلف.

فابتداء أدركت الولايات المتحدة ان ثورة 17-30تموز لم تكن خارج نمط تلك التغييرات، أو الانقلابات ألمسموح بها داخل العالم الثالث. وربما ساعد على ذلك ".. ان الحزب كان صغيراً ومشكلات العراق كبيرة وقادة الثورة شباباً غير مجربين واغلبهم غير معروف"، وهو الأمر الذي دعم مضمون إدراك أمريكي قديم للعراق مؤداه انه ليس "... بلداً حقيقياً "، ومن ثم عدم الاهتمام به بمثل نوعية الاهتمام بدول عربية وغير عربية.
على ان هذا الإدراك تغير فيما بعد ويستطيع المرء تحديد بداية هذا التغيير، وقياساً على تجربة تأميم قناة السويس في العام 3ه9اونتائجها، ويمكن القول ان تأميم النفط العراقي في العام 1972قد سجل تاريخ هذه البداية. فنتائجه الايجابية على العراق جعلت الذاكرة الغربية عموماً لا تنساه.

لذا اتخذ الغرب عامة من تلك السياسة التي كان قد اعتمدها منذ الخمسينيات حيال العالم الثالث سبيلاً أساسياً للتعامل معه. ومفادها ان خروج دول هذا العالم عما هو مسموح به يستدعي إسقاط نظمها السياسية وإبدالها بأخرى منساقة وراء سياساته.

وتبعاً لهذه السياسة حاول الغرب تطويع العراق عن طريق أدوات الترهيب والترغيب معاً. الأولى تجسدت في الزعزعة عبر الاستنزاف من خلال مشكلات داخلية وخارجية. أما الثانية فقد أريد بها تحقيق التقرب من العراق لاستمالته إلى جانب عموم السياسة الغربية في الوطن العربي.
وقد فشلت كل من هاتين الوسيلتين في صرف العراق عن مساره التحرري. لذا صارت الولايات المتحدة ترى فيه المناهض الأول لإستراتيجيتها في الوطن العربي. وتبعا لذلك انتقل أسلوب التعامل معه إلى أخر اشد عنفاً اخذ، أولاً، شكل الحرب بالنيابة. فاندلاع الحرب العراقية - الإيرانية واستمرارها ثماني سنوات لم يكن بمعزل عن تغذية قوى إقليمية ودولية وتشجيعها دور العامل الإيراني المباشر.

على ان خروج العراق منتصراً من هذه الحرب، وبقوة عسكرية وسياسية مؤثرة، لم يؤد إلى ان يتكرس عدم الاستعداد النفسي والسياسي الغربي (وبضمنه الأميركي) لقبول هذا الواقع الجديد حسب، وإنما إلى ان تتعزز الخشية من أبعاد الدور القومي للعراق أيضاً. لذلك بدأ، ثانياً، التخطيط لحرب تقوم بها الولايات المتحدة الأميركية هذه المرة بالدور المباشر ضد العراق، تحجيماً له وتأميناً لمصالحها الإقليمية والعالمية. وهكذا قامت بحربها العالمية ضد العراق مدعومة بقوة ثلاثين دولة.

إن التحول في عموم الرؤية الغربية للعراق، وبضمنه أساليب التعامل معه، لم يكن بمعزل عن اثر إدراك لأبعاد التحولات الجذرية الايجابية في واقعه الداخلي وانعكاساتها على حركته الخارجية. فهذه التحولات، التي عبرت عن الطريق الجديد الذي اعتمدته الثورة لفرض احتواء السلبيات الموروثة والتحديات الخارجية، هي التي جعلت العراق متماسكاً وقوياً في الداخل وفاعلاً في الخارج، على خلاف الحالة التي كان عليها قبل العام 1968.

الانجازات
على مدى المدة الماضية من مسيرة الخير والتقدم تحققت في العراق، انجازات بالغة الأهمية أسست الأرضية لمستقبل واعد. ولتعددها وتنوعها سنكتفي بتناول بعضها على سبيل المثال كالآتي:

تثبيت السلطة الوطنية وترسيخها
غني عن البيان ان المهمة الأساسية لكل ثورة كبرى، بعد نجاحها، تحمن في تثبيت سلطتها وتعزيزها، والشيء نفسه ينسحب على ثورة العراق. فالمؤتمر القطري الثاني لحزب البعث العربي الاشتراكي أكد من قبل "ضرورة حماية الثورة في القطر العراقي باعتبارها قاعدة نضالية لحركة الثورة العربية.».

إن نوعية الظروف التي واجهتها الثورة بعد نجاحها هي التي جعلت القيادة تتوجا بالدرجة الأولى إلى تثبيت السلطة الوطنية سبيلاً أساسياً للتفرغ باتجاه انجاز أهدافها وبإيجاز، واجهت الثورة أخطاراً حقيقية. ومثالها، أولاً، خطر تشويه هويتها والالتفاف عليها وحرفها عن الطريق الذي رسمه الحزب لها جراء تسلل عناصر إليها لم تكن مؤمنة بها، وثانياً انتشار شبكات التجسس الأجنبية ونشاط الماسونية، وثالثاً التوظيف الخارجي للأمراض الاجتماعية الموروثة لأغراض الزعزعة، ورابعاً محاولات إسقاط الثورة بتشجيع ودعم خارجي.

وحيال هذه الأخطار وغيرها عمدت الثورة، من اجل تثبيت السلطة الوطنية، إلى تبني الكثير من الإجراءات ومن بينها على سبيل المثال: أولاً، تعزيز قيادة الحزب لمؤسسات الدولة ولاسيما أنها عدت «... ضرورة مركزية من ضرورات بقاء الثورة وحياتها وتطورها».على ان المشكلات التي برزت في السنوات الأول على هذا الصعيد تراجع تأثيرها فيما بعد جراء نمو القاعدة الحزبية وتراكم الخبرة بمرور الزمن.

أما الإجراء الثاني فقوامه خلق جسور الثقة مع الجماهير وتوطيدها. فالثورة أدركت في السنوات الأول أنها «ورثت أزمة ثقة بين الجماهير والثورة، عاشت مرارتها في ضميرها وقلبها وعقلها، وعقدت العزم على تخطيها بثقة عالية بالنفس والحزب والجماهير».

إن هذا الإدراك أدى إلى سلسلة من الممارسات العملية تجسدت في ترجمة الشعارات إلى واقع ملموس وتحقيق الوعود. ومثال ذلك قرار التأميم في العام 1972 الذي كان الحزب يدعو إليه قبل الثورة، فضلاً عن ترجمة الوعد بمنح العراقيين الأكراد الحكم الذاتي في موعده (11أذار 1974).

إن خلق أواصر الثقة من خلال الحقائق التي عاشتها الجماهير عبر مسيرة (30) عاماً هو الذي جعل الجماهير القاعدة الصلبة والركيزة الأساسية للثورة. فالقناعة الجماهيرية، الكامنة والصريحة، بإخلاص قيادة الثورة وكفاءتها هي التي تفسر تكرار تجارب الالتفاف حول قيادة السيد الرئيس صدام حسين، سواء في الحرب العراقية - الإيرانية، أم في أم المعارك، وأخيراً في يوم الزحف الكبير.

أما الإجراء الثالث فقد تجسد في إضفاء صفة الهيئة التشريعية العليا على مجلس قيادة الثورة. ويحدد التقرير السياسي للمؤتمر القطري الثامن للحزب غاية ذلك، إذ يقول "إن الحزب اصطدم بمعضلة القوانين والتشريعات السائدة منذ اليوم الأول لتسلمه السلطة. ووجدت الثورة نفسها عاجزة عن قيادة البلاد مع بقاء تلك القوانين والتشريعات، لذلك اتخذ مجلس قيادة الثورة صفة الهيئة التشريعية العليا، واتخذت قراراته قوة القانون وفاعليته وبهذا الإجراء الحاسم استطاعت الثورة ان تحل جانباً مهماً من هذه المعضلة".

وأخيراً، تجسد الإجراء الرابع، في ربط الإرادتين الشعبية والرسمية إحداهما بالأخرى عبر تعميق المشاركة السياسية ونشر الديمقراطية وقد تجلى ذلك على سبيل المثال في إقامة الجبهة الوطنية وانتخابات المجلس الوطني وغيره من المجالس المنتخبة على صعيد أضيق.

تعزيز الاستقلال السياسي
تفيد تجربة العديد من الدول الحديثة الاستقلال في العالم الثالث ان الاستقلال السياسي لا يصبح ذا قيمة علية عندما لا يتأسس على مقومات تؤمن للدولة حرية اتخاذها القرار الداخلي والخارجي على وفق مبادئها ومصالحها. فهذه الحرية هي التي تجعل الدولة سيدة ذاتها..

إن تمتع العراق بالاستقلال السياسي لا يعني انه كان حتى عام 1968مستقلاً عملياً. فواقع العراق، داخلياً وخارجياً، حال دون ذلك. لذا لم يبدأ العراق باكتساب حريته الكاملة إلا بعد عام 1968، لان الثورة عمدت إلى إعادة بناء أركان البيت العراقي على نحو جدي أفضى بالمحصلة إلى تأمين حريته الكاملة.

ولم يكن ذلك بمعزل عن تصور استراتيجي لكيفية احتواء السلبيات الموروثة تأميناً للفاعلية الداخلية ومن ثم للفاعلية الخارجية. ويقترن هذا التصور بقيادة الرئيس صدام حسين للعراق ودور» الفاعل في صنع حاضره ومستقبله.

والمجال لا يتسع لتناول الخصائص التي تتميز بها شخصية القائد صدام حسين وأثرها في بناء هذا التصور. ومع ذلك تجدر الإشارة إلى ان هذه الخصائص يعترف بها حتى أولئك الذين يختلفون مع العراق. فقد قيل على سبيل المثال: "... ان صدام حسين قيادة عربية فير عادية...". وإضافة إلى ذلك فإن هذه الخصائص، متفاعلة مع الممارسات العملية التي عبرت عنها، هي التي جعلت الغرب يدرك انه أمام رجل يختلف عن أولئك الذين تعامل معهم في العالم الثالث، أي أمام رجل يقود بوعي وإصرار مشروعاً حضارياً متكاملاً للاستقلال الوطني والقومي والارتقاء الحضاري.

لذا كان إبعاد قائد هذا المشروع الحضاري عن قمة الهرم العراقي سبيلاً لإفشال مشروع العراق ومازال هدفاً أميركياً وغربياً.
وعلى وفق التصور الاستراتيجي للقائد صدام حسين لكيفية تأمين الاستقلال السياسي للعراق فإنه انطوى على بناء تلك الركائز التي تنبع منها الفاعلية الداخلية، ومن بينها، على سبيل المثال، الركائز المجتمعية والاقتصادية والعسكرية وسنتناولها بإيجاز:

أما عن الركيزة المجتمعية، فقد اعتمد القائد صدام حسين إجراءات غير تقليدية لتعزيز البناء الداخلي وتجذير مقاومتا قوامها تكريس التجانس والتكامل الاجتماعي والاستقرار السياسي.

وقد انطوت هذه الإجراءات على مخرجات انعكست بدورها إيجابا على الأرضية الاجتماعية لحركة العراق. فهذه صارت أكثر صلابة وتماسكاً بالمقارنة بواقعها السابق قبل العام 1938. فالقوة التي اكتسبتها حركة العراق جراء ذلك هي التي أفشلت المراهنات الإقليمية والدولية على التركيبة الاجتماعية الداخلية سواء في الحرب العراقية - الإيرانية أم في صفحة العدوان العسكري والحصار الاقتصادي في أم المعارك الخالدة. ويتأكد هذا الفشل في الولاء للوطن والالتفاف حول قيادة الرئيس صدام حسين. لذا كانت التركيبة الاجتماعية المعروفة للعراق ومازالت مصدر ".. قوة لنا وليس سلاحاً ضد الثورة ".

أما عن الركيزة الاقتصادية، فقد بدأ الواقع الاقتصادي منذ السبعينات، يسير باتجاه معاكس لما كان قبل العام 1968. فالثورة أدركت ان الاستقلال السياسي للعراق يبقى شكلياً إذا لم يرفد بتنمية شاملة وحقيقية.
وفي سبيل ذلك اعتمدت سياسة اقتصادية رمت بالمحصلة إلى تأمين إلغاء الخصائص التي اقترن بها الاقتصاد الواحد. ومن هنا جاء، على سبيل المثال، قرار تأميم النفط العراقي في العام 1972واستثماره وبقية خيرات العراق استثماراً وطنياً. من حيث الاستخراج والتسويق، فضلاً عن دعم التنمية الصناعية والزراعية والبشرية وتنويع العلاقات الاقتصادية الدولية.
لذلك تطورت تدريجياً في العراق قاعدة اقتصادية - صناعية - علمية. ومما ساعد على ذلك نمو قدرة العراق المالية جراء قرار التأميم والتوظيف الواعي لهذه القدرة.

وانطلاقاً من ان القدرة الاقتصادية المتينة صارت تفد إحدى أبرز ركائز الاستقلال السياسي لكل دولة فقد انعكست مخرجات السياسة الاقتصادية للعراق على حركته المستقلة، إذ أفضت إلى دعم تجذرها وتأثيرها. فهذه المخرجات لم تجعل العراق معتمداً على ذاته لتمويل مشاريع تنميته وبناء قوته العسكرية حسب، وإنما أدت أيضاً إلى ان يكون مانحاً للمساعدة الخارجية، عربياً ودولياً (ولاسيما لدول العالم الثالث). ففي عام 1971بلغ حجم هذه المساعدات 4% من مجمل الناتج القومي الإجمالي للعراق.

إن الخشية من تصاعد وتائر التنمية في العراق ودوره في تسريع خروجه من دائرة التخلف بانعكاساته الايجابية على أهميته العربية والدولية، تفسر تلك السياسات الخارجية التي رمت إلى تعطيل هذه التنمية وإفشالها. فكل من الحربين الإيرانية والأميركية ضد العراق أريد بها استنزافه اقتصاديا لإلغاء إحدى ابرز دعائم استقلاله السياسي.

على ان القاعدة الاقتصادية - الصناعية - العلمية التي بنيت في العراق، والخيرات الوفيرة التي يتوافر عليها، فضلاً عن الإرادة القيادية، تجعل العراق قادراً على تحقيق معجزة اقتصادية تضيف إلى التجربة اليابانية تجربة فريدة أخرى.
أما عن الركيزة العسكرية، فغني عن البيان ان للجيش العراقي تاريخاً مشرفاً على الصعيدين الوطني والقومي. فكما ان ثورات العراق ترد إليه، فإنه أيضاً لم يتوان عن المشاركة في الحروب القومية ضد الكيان الصهيوني.
على ان هذا الدور المشرف لا يلغي ان الجيش العراقي كان قبل العام 1928يعاني آثار الواقع الداخلي والخارجي للعراق آنذاك.
إن التغيير النوعي الذي عاشه العراق بعد هذا العام انسحب على منواله على قدرته العسكرية. فهذه القدرة أخذت بالنمو المطرد على نحو أدى إلى ان يتوافر العراق على قوة عسكرية فاعلة ومؤهلة خدمة للأهداف الوطنية والقومية. فالجيش العراقي عد في العام 1980 ثالث اكبر قوة عسكرية عربية من حيث العدد ومن حيث الإنفاق العسكري أيضاً.

إن هذه النتيجة أدت إليها مقدمات لا تكمن في تصاعد القدرة المالية للعراق واستقراره السياسي حسب، وإنما على وجه الخصوص في الاهتمام المكثف الذي حظي به الجيش العراقي من لدن القائد صدام حسين لتأهيله. تعزيز قدراته.

فانطلاقاً من ان «الجيش هو رمز لاستقلال والسيادة وهو أداتها وسلاحها، كما انه رمز القوة والكرامة الوطنية» أعيد بناء الجيش على وفق أساليب متنوعة ومثالها الآتي:

أولاً: تعزيز قيادة الحزب إياه ضماناً لأداء دوره النضالي.
ثانياً: بناء الجيش بناء عقائدياً وثورياً على وفق مبادئ ثورة 17-30 تموز 1968 وأهدافها.
ثالثاً: تأمين مصادر متعددة ومتنوعة، شرقاً وغرباً، لتجهيزه بالسلاح ضماناً لاستقلالية الإرادة الوطنية ولاسيما ان التجارب أكدت ان الدول المصدرة للسلاح لا تتوانى عن توظيف الحاجة إلى سلاحها خدمة لأهدافها.
رابعاً: الشروع وطنياً في تصنيع السلاح رفداً لقوة الاقتدار العسكري وضماناً لحرية الحركة، ودعماً للنهوض الصناعي الشامل في العراق.

وللعلاقة الوطيدة بين الإمكانيات العسكرية الفاعلة للدولة وقدرتها على تأمين استقلالها السياسي، عبر الردع أو الاستخدام المباشر لهذه الإمكانيات عند الضرورة، فغني عن البيان ان نوعية البناء العسكري الذي تحقق في العراق عد احد الأسباب الرئيسة التي سهلت مشاركته في الدفاع عن الأمن القومي العربي.« إننا لا نريد للجيش العراقي فقط الدفاع عن حدود العراق، وإنما نريد ان يكون الجيش العراقي درع الأمة العربية وسيفها المشهور ضد الأعداء.

هذا إضافة إلى تأمين صموده في أطول حرب دولية عرفها القرن العشرين، ان الحرب العراقية - الإيرانية. جعلت أعظم قوة عسكرية في هذا القرن، أي الولايات المتحدة الأميركية، تتجنب بديل المواجهة العسكرية المباشرة مع القوات العراقية.
وفي ضوء تأثير المقومات المجتمعية والاقتصادية والعسكرية الايجابي تعززت الإرادة المستقلة للعراق، وأضحى الإصرار عليها، حتى في الأوقات الأشد صعوبة، أنموذجا لدولة صغرى تريد ان تكون حرة وسيدة حاضرها ومستقبلها.

تعزيز الوحدة الوطنية
نادراً ما تكون الدولة المعاصرة من تركيبة قومية واحدة فمعظمها يحتضن أقلية (أو أقليات) قومية إلى جانب الأغلبية القومية.
وتفيد الخبرة التاريخية ان طبيعة العلاقة المتبادلة بين عناصر التركيبة القومية للدولة، سواء من حيث تجانسها أم تنافرها، تنطوي على تأثير في حركة الدولة. فعلى خلاف حالة التنافر يفضي التجانس القومي إلى توطيد الاستقرار السياسي للدولة، ومن ثم انطلاقها صوب تحقيق أهدافها. وقد لا يختلف العراق عن سواه من الدول المتعددة القوميات إذ احتضن منذ القدم قوميات متعددة عاشت معاً في حالة إخاء وتجانس عززتها قواسم مشتركة، معنوية ومادية، دائمة كالدين والمصالح المشتركة.

إن هذه الحالة وقفت على الضد من مصالح القوى المناهضة للعراق، إقليمياً ودولياً. لذا فإنها عمدت، منذ مدة سبقت العام 1968، إلى زعزعتها سبيلاً لديمومة استنزاف العراق وإضعافه ومن ثم إخضاعه. وتبعاً لذلك ورثت الثورة، ضمن مخلفات الماضي، ما سمي بالمشكلة (أو القضية) الكردية.

ولأهميتها التي أفرزتها على مدى مدة طويلة، الملابسات التاريخية التي رافقتها، والاتجاهات التي اقترنت بها والاستخدامات الخارجية لها، فقد أولت قيادة الثورة حلها، سلمياً وديمقراطياً، أولوية خاصة انطلاقاً من إيمانها بالحقوق القومية للأكراد وغيرهم من القوميات الأخرى، ضمن إطار الوحدة القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لدولة العراق.
إن هذه الأولوية تجسدت في تشريع وإصدار قيادة الثورة بيان الحادي عشر من آذار 1970، وإصرارها على تنفيذ الحكم الذاتي في الحادي عشر من آذار 1974في موعده المحدد الذي حقق للمواطن العراقي الكردي حقين: حقه كعراقي وحقاً زائداً، أي حق الحكم الذاتي.

وتجدر الإشارة إلى ان صدور قانون الحكم الذاتي ذي الرقم 23في العام 1974سبقه تعديل الدستور بإضافة فقرة تحت تسلسل (ر) إلى المادة الثالثة التي تنص: " تتمتع المنطقة التي غالبية سكانها من الأكراد بالحكم الذاتي وفقاً لما يحدده القانون".

وينطوي قانون الحكم الذاتي على (21) مادة موزعة على ثلاثة أبواب تناولت تباعاً أسس الحكم الذاتي، وهيئاته، والعلاقة بين السلطة المركزية وإدارة الحكم الذاتي.

وبموجب هذا القانون تعد منطقة الحكم الذاتي جزءاً لا يتجزأ من ارض العراق، وشعبها جزءاً من شعب العراق وتتمتع بوحدة إدارية لها شخصية منوية ووحدة مالية مستقلة ضمن وحدة مالية الدولة، وذات ميزانية خاصة ضمن ميزانية الدولة. كما ان هيئات الحكم الذاتي جزء من هيئات جمهورية العراق. وقد عدت اللغة الكردية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، كما اقر القانون قيام مجلس تشريعي منتخب.

على ان حل القضية، على وفق الحكم الذاتي، الذي يعد تجسيداً لإيمان ثورة العراق بحقوق مواطنيه جميعاً. أثار القلق والخشية، إقليمياً ودولياً، من أبعاده المتعددة، ولاسيما تعطيل التوظيف الخارجي لهذه القضية سبيلاً لإشغال العراق عن أهدافه الوطنية والقومية.

لذا استمرت على توظيف بعض القوى الكردية بما يخدم مصالحها الذاتية حسب، وبضمنه تعطيل الحوار البناء بين الحكومة المركزية والقيادات الكردية، وأخرها حوار عام 1991. ويؤكد مكرم الطالباني ان الولايات المتحدة والدول المجاورة مارست الضغط على الجانب الكردي لإفشال الحوار ولاسيما أنها ضد تجربة الحكم الذاتي.

وتجدر الإشارة إلى ان تجربة التعامل المبدئي والإنساني مع المواطنين الأكراد، على وفق ما ذكرناه سابقا سبقتها تجربة مماثلة في التعامل مع المواطنين العراقيين التركمان والناطقين باللغة السريانية انتهت إلى قرار مجلس قيادة الثورة في العام 1970 بمنح التركمان حقوقهم الثقافية، وقراره أيضاً في العام 1973 بالنسبة إلى الناطقين بالسريانية من الاثوريين والكلدان والسريان، فضلاً عن ضمانة الدستور للأقليات بممارسة حقوقها الثقافية.

إن تجربة تعامل العراق مع القوميات غير العربية داخل حدوده، التي ينفرد بها عن سواه من الدول المجاورة، تؤكد أصالة تأثير التراث، وإنسانية الثورة وإيمانها بالديمقراطية والوحدة الوطنية، فضلاً عن ثقتها بذاتها وصواب منهجها.

المؤسسات الدستورية
يقصد بها تلك الأبنية الرسمية المستقرة التي ينيط بها دستور الدولة انجاز وظائف متخصصة محددة خدمة للوظيفة النهائية للدولة وإضفاء الشرعية عليها. ويعد وجود المؤسسات، أو انتفاؤها، معياراً يستخدم، في أحيان، للتمييز بين المجتمعات المستقرة وغير المستقرة.
وانطلاقاً من "ان ثورة السابع عشر من تموز 1928هي،في جوهرها وغايتها، ثورة تحررية ديمقراطية اشتراكية وحدوية»، فإنها حرصت على تحويل العراق إلى دولة تتوافر على مؤسسات ديمقراطية فاعلة ومستقرة.

وعلى مدى مسيرة الخير والتقدم في العراق صدرت وثائق دستورية مهمة عديدة لهذا الغرض، ومن بينها الدستور، ولأهميته تقتضي الضرورة تناوله، قبل التطرق إلى بعض هذه المؤسسات، ولاسيما مجلس قيادة الثورة والمجلس والوطني.

الدستور
منذ عام 1968 صدر في العراق دستوران: الأول دستور 21أيلول 1968، والثاني دستور 16 تموز 1970 الذي حل محل الأول. وتعزى أسباب ذلك إلى ان دستور عام 1968 لم يستطع، على الرغم من التعديلات التي طرأت عليه، ان يرتقي إلى مستوى الانجازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وسواها التي حصلت في العراق في الفترة اللاحقة على صدوره.

يتكون دستور عام 1970 من (70) مادة توزعت على خمسة أبواب. ففي حين تناول الباب الأول هوية جمهورية العراق، وحدد في الثاني أسسها الاجتماعية والاقتصادية، ذهب في الباب الثالث إلى تثبيت الحقوق والواجبات الأساسية، وفي الرابع إلى تشكيل المؤسسات الدستورية، وبضمنها مؤسسة القضاء والادعاء العام. أما الباب الخامس فقد انطوى على أحكام عامة.

وقد خضع دستور عام 1970 لتعديلات عديدة، منذ تاريخ صدوره، وينطوي على خصائص مميزة لا يسع المجال إلا تناول بعضها على سبيل المثال. ومن بينها الآتي:

1- ثبت الدستور هوية النظام السياسي في العراق وغايته النهائية. فالمادة الأولى منه تنص على ان «العراق جمهورية ديمقراطية شعبية ذات سيادة هدفه الأساس تحقيق الدولة العربية الواحدة وإقامة النظام الاشتراكي».
2- اقر إيمانه بالشعب. فالمادة الثانية تنص على ان «الشعب مصدر السلطة وشرعيتها».
3- ربط بين الإسلام والعروبة في كل لا يتجزأ. ففي حين أكد في المادة الخامسة منه «ان الإسلام هو دين الدولة الرسمي»، نصت المادة الخامسة على «ان العراق جزء من الأمة العربية». وان اللغة العربية هي اللغة الرسمية والى جانبها اللغة الكردية في منطقة الحكم الذاتي (المادة السابعة).
4- اقر ان الشعب العراقي يتوزع علي قوميتين أساسيتين، هما العربية والكردية، وأن للمواطنين الأكراد حقوقهم القومية والحقوق المشروعة أيضاً للأقليات كافة (المادة الخامسة).
5- أكد مبدأ المساواة المطلقة بين المواطنين بلا «تفريق بسبب الجنس، أو العرق، أو اللغة، أو المنشأ الاجتماعي، أو الدين» مع ضمان الفرص لجميع المواطنين في حدود القانون. جاء ذلك في الفقرتين الأولى والثانية تباعاً من المادة التاسعة.
6- جعل السلطة العليا في العراق من اختصاص مجلس قيادة الثورة يباشرها بما يتفق وحماية الثورة والوصول إلى أهدافها، كما ورد في المادة 37.
7- أكد إيمانه بحقوق الإنسان العراقي، السياسية والاقتصادية والاجتماعية على وفق أغراض الدستور وفي حدود القانون (المادة 26)، وكفل حق اللجوء السياسي «.. لجميع المناضلين المضطهدين في بلادهم بسبب دفاعهم عن المبادئ التحررية الإنسانية التي التزم بها الشعب العراقي في هذا الدستور ». كما منع تسليم اللاجئين السياسيين (المادة 34 الفقرتان الأولى والثانية).
8- أكد ان «القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون» فضلاً عن ان «حق التقاضي مكفول لجميع المواطنين»

مجلس قيادة الثورة
على وفق المادة 37، الفقرة أ من الدستور، يعد مجلس قيادة الثورة «الهيئة العليا في الدولة الذي اخذ على عاتقه في السابع عشر من تموز 1968 مسؤولية تحقيق الإرادة الشعبية العامة بانتزاع السلطة من النظام الرجعي الفردي الفاسد وإعادتها إلى الشعب».
وتبعاً لمكانته الدستورية الخاصة، فإنه يمارس سلطات تشريعية واسعة محددة في متن الدستور، لأنه بموجب المادة 42 الفقرة الثانية من الدستور، يشرع القوانين، ويصدر فضلاً عن ذلك «القرارات التي لها قوة القانون».

ويتكون مجلس قيادة الثورة من أعضاء مجمل عددهم، على وفق تعديل عام 1982 للدستور، تسعة أعضاء: ثمانية منهم أعضاء في قيادة قطر العراق للحزب. أما العضو التاسع فهو نائب رئيس الجمهورية، علماً ان عضوية المجلس محددة بالأسماء في متن الدستور.

وللعلاقة بين العضوية في قيادة قطر العراق وعضوية مجلس قيادة الثورة، ولأن العضوية في الأولى تقوم على أساس الانتخاب، أكدت سوابق ان فقدان «... عضوية القيادة الحزبية (قيادة قطر العراق) يؤدي إلى(فقدان لم عضوية مجلس قيادة الثورة».

وينتخب رئيس مجلس قيادة الثورة من بين أعضائه بأغلبية الثلثين ويتمتع بصلاحيات محددة مثبتة في متن الدستور، وينتخب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة أيضاً من بين أعضائه بالأغلبية نفسها، ويحل على وفق الدستور، محل رئيس مجلس قيادة الثورة حكماً في حالة غيابه أو تعذر أو استحالة ممارسته اختصاصاته الدستورية لأي سبب مشروع.

ومنحت المادة (40) من الدستور رئيس مجلس قيادة الثورة ونائبه والأعضاء حصانة تامة، ومن ثم لا يجوز دستورياً اتخاذ أي إجراء بحق أي منهم إلا بإذن سابق من المجلس وذهبت المادة (41) إلى كيفية عمل مجلس قيادة الثورة، إذ تضمنت ما يفيد ان اجتماعاته تتم بدعوة من رئيس المجلس أو نائبه. كما ان اجتماعاته تنعقد برئاسة احدهما وبحضور أكثرية الأعضاء، فضلاً عن أنها تكون سرية اما قراراته فتنشر بالطرق المبينة في الدستور.

وتجدر الإشارة إلى ان العلاقة بين عضوية قيادة قطر العراق للحزب ومجلس قيادة الثورة إنما تعبر عن مبدأ القيادة الجماعية الذي يتبناه حزب البعث العربي الاشتراكي. يضاف إلى ذلك ان العلاقة بين أعضاء مجلس قيادة الثورة هي علاقة نضالية ورفاقية صميمية.

إن الإيمان بالعمل الجماعي يتجسد في أنماط سلوك القائد صدام حسين. يقول فؤاد مطر ان القائد« في مناقشاته مع رفاقه يميل إلى سماع كل الآراء قبل ان يقول رأياً ما الذي يرفقه دائماً بالتحليل والشواهد». ويضيف طه ياسين رمضان قائلاً «ان تعامل سيادته مع الرأي المخالف يكون أكثر ايجابية من الرأي المطابق» ومرد ذلك ان القائد صدام حسين يرى ان التطابق في الرأي هو ليس الحالة الصحيحة دائماً. إذ يقول: «.. ولا يجب ان يتصور أي واحد منا... ان تريحه عملية التطابق المستمر في الرأي معه».
المجلس الوطني
يؤمن حزب البعث العربي الاشتراكي بالديمقراطية. وتجسيداً لها عبرت الثورة، بعد مدة قصيرة من اندلاعها، عن عزمها على ان يكون للعراق مؤسسة سياسية منتخبة شعبياً، ولاسيما انه افتقر إلى مثيلتها منذ عام 1958. لذا جاء دستور عام 1970، وفي اثر ذلك صدر قانون المجلس الوطني ذو الرقم 228في 17/12/1970.

إلا ان العمل بهذا القانون لم يتم آنذاك. ومرد ذلك ان قيادة الثورة كانت تريد ان يتأسس هذا المجلس على أسس أصيلة ومبتكرة وليس على أسس تقليدية أو مصطنعة.

وترجمة لوعد كان القائد صدام حسين قد قال به في شباط 1979طرح  فيما بعد مشروع جديد لقانون المجلس الوطني على الشعب ومنظماته لمناقشته. وكانت محصلة ذلك الفاء القانون السابق وصدور قانون جديد بالرقم 55في 15/3/1980 من اجل ان «يؤمن الإسهام في الوظيفة التشريعية إلى جانب مجلس قيادة الثورة وليمارس الرقابة على مؤسسات الدولة ويكون خطوة في البناء الديمقراطي كما جاء في الأسباب الموجبة لصدور هذا القانون الذي خضع فيما بعد لتعديلات عديدة رمت مضامينها إلى ترتيب الأجواء الممكنة لجعل المجلس الوطني تجربة ناجحة.

وعلى وفق هذا القانون وتعديلاته يتكون المجلس الوطني من أعضاء لا يقل عددهم عن (250) عضواً يمثلون مختلف الشرائح السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويختارون عن طريق الانتخاب المباشر بالاقتراع السري(المادة الأولى).

وتكون مدة المجلس الوطني (4) سنوات. ويعقد في كل سنة دورتين: الأولى ربيعية. والثانية خريفية. ولرئيس الجمهورية ان يدعو المجلس إلى عقد جلسات استثنائية عند الضرورة. وجلساته تكون علنية في المعتاد ويجوز ان تكون سرية.

وقد انتخب أول مجلس وطني في العراق في العام 1980 وفي وقت كان العراق يعيش مقدمات حرب عملت إيران على تأجيجها ومنذ العام 1980 حتى الآن أجريت (4) انتخابات للمجلس الوطني.

وتبعاً لمضامين المواد (52- 54) من الدستور، والباب الثالث من قانون المجلس الوطني لعام 1980، فان المجلس الوطني يتولى وظائف مهمة: أولاها وظائف تشريعية قوامها تشريع مقترحات القوانين المرفوعة إليه من مجلس قيادة الثورة، أو من قبل رئيس الجمهورية، إضافة إلى النظر في مشاريع القوانين التي يقدمها ربع عدد أعضائه في غير الأمور العسكرية والأمنية وثانيها وظائف سياسية مفادها الرقابة على مؤسسات الدولة ودعوة أي من الوزراء للاستيضاح أو الاستفسار أو الاستجواب، فضلاً عن إقرار الميزانية العامة وخطط التنمية والمعاهدات والاتفاقيات الدولية.
الخاتمة

على مدى مسيرة الخير والتقدم استطاعت ثورة 17-30 تموز 1968، على الرغم من الموروث الثقيل والتحديات الخطيرة، ان تبني دولة تتألق داخلياً وقومياً وموضوعياً، يعود هذا التألق إلى دور القائد صدام حسين، مفكراً ومخططاً استراتيجياً ورجل دولة، من نمط أولئك القلة من القادة الذين عرفهم التاريخ، نفي ضوء تصور حضاري واع لأهدافه ومدرك لأدواته، يجمع بين المبدئية والواقعية بتوازن خلاق، عمل القائد من اجل إعادة بناء العراق على نحو جعل منه عراقاً جديداً، وقاعدة للزهو الوطني والقومي والإنساني خدمة لمشروعه الحضاري النهضوي.
إن الدور الذي أنجزه القائد صدام حسين للعراق إنما يبرهن على ان للبطل التاريخي دوراً خلاقاً في بناء الفاعلية الداخلية ومن ثم الارتقاء بمكانتها الدولية ودورها الحضاري إلى آفاق أرحب وأوسع.
إن القيادة الإستراتيجية والتاريخية للقائد هي التي«أوصلت العراق إلى هذه المكانة أول مرة في تاريخا الحديث...






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق