الجمعة، 18 ديسمبر 2015

العراق ثلاثون عاما من مسيرة الخير والتقدم ...صادر عن وزارة الثقافة والاعلام العراقية ..1998..الجزء الرابع


العراق 

ثلاثون عاما من مسيرة الخير والتقدم 
الجزء الرابع 
بمناسبة الذكرى التاسعة لاستشهاد الرئيس الخالد صدام حسين 

هدية قدمت للنشر 

من قبل 

لجنة لبنان 




الفصل الرابع
القيادة التأريخية

ارتبطت حالة الاستقرار والازدهار في العراق منذ أقدم العصور بوجود قادة عظام حققوا أعمالاً بارزة في توحيد الوطن وتدعيم سلطة الدولة المركزية والمضي في البناء الحضاري ذي الإبعاد الإقليمية والعالمية، واقترن بوجودهم ظهور الدولة القوية الموحدة وانتشار تأثيرها الحضاري والسياسي في محيطها الإقليمي والعالمي. فكان بروز مدن اور والوركباء ولكش ونفر و اريدو مراكز حضارية، وظهور أول شريعة في التاريخ مقترناً بالملك السومري العظيم اورنمو(3112-3096 ق.م ) وارتبط ازدهار الإمبراطورية الاكدية واتساع نفوذها جنوباً وشرقاً وشمالاً بظهور الملك سرجون الاكدي (2371-2316ق.م)                                     

كما اقترن توحيد العراق في الألف الثاني قبل الميلاد بعد تمزقه اثر سقوط سلالة اور الثالثة وترضه لغزو عدة أقوام أجنبية بظهور الملك العظيم حمورابي (1793- 1751ق.م ) الذي حكم 42سنة مثلما اقترنت باسمه مسلته القانونية المرموقة وانجازاته الفكرية والإدارية والتعليمية والعسكرية العظيمة.                                                                

وما لبثت بابل ان شهدت عصراً ذهبياً جديداً في عهد الملك نبوخذ نصر الأول (1124- 1103 ق.م ) الذي أنقذ العراق من العيلاميين القادمين من إيران. وبرز الملك نبوخذ نصر الثاني (604- 562ق.م ) الذي اشتهر بتحريره مدينة القدس، فضلاً عن ردعه هجمات العيلاميين على العراق ونشره العمران والبناء في المدن العراقية.                                                                             

وفي إطار الإمبراطورية الأشورية التي ازدهرت وشهدت نفوذاً سياسياً وحضارياً عظيماً، حتى باتت إحدى اكبر الإمبراطوريات في العصور القديمة فقد اقترن ذلك بظهور عدة ملوك من أبرزهم الملك سرجون (712 ق. م ) وابنه الملك سنحاريب (704ق.م ) وحفيده اسرحدون (680- 669ق.م ) الذي وصلت فتوحاته إلى مصر، والملك أشور بانيبال الذي دحر العيلاميين ودخل عاصمتهم واقترنت باسمه المكتبة الأشورية والانجازات العمرانية الكبيرة.                                                   

وبعد سقوط الإمبراطورية الأشورية في عام (612ق.م ) على يد الميديين وسقوط مملكة بابل في عام (539ق.م) على يد كورش الفارسي وخضوع العراق للاحتلال الأجنبي قرابة اثني عشر قرناً ظهر قادة وطنيون اقترنت باسمهم ممالك عربية تحدت الاحتلال الأجنبي وتركت بصمات واضحة على تاريخ الحضارة في هذا البلد العريق ووحدة أبناء الشعب فيه مثل الملك سنطرق في مملكة الحضر، والملك النعمان الأول (400- 418م) والنعمان بن المنذر (580-602م) في دولة المناذرة في الحيرة.                                                                               

وما لبث العراق بعد التحرير الإسلامي من الاحتلال الفارسي ان عاد إلى مسيرته الحضارية التي اقترنت بظهور قادة عظام، بدءاً بالصحابة الذين حرروا العراق من أمثال القادة خالد بن الوليد وأبي عبيد الثقفي وعتبة بن غزوان وسعد بن أبي وقاص ومروراً بالخليفة الراشد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع ) وانتهاء بالخلفاء العباسيين العظام الذين أسسوا في العراق اكبر إمبراطورية عربية أسلامية كأبي جعفر المنصور وهارون الرشيد والمأمون وغيرهم.                                             

وبعد انتهاء العصر العباسي المزدهر وسقوط بغداد بيد الغزاة المغول عام (656هـ -1258م) خضع العراق للاحتلال الاستعماري المباشر من أقوام فارسية وتركية ومغولية وتترية غازية مختلفة. وقد فرضت هذه القوى على العراق أنظمة وإدارات وإجراءات تخدم مصالحها الاستعمارية في نهب خيراته واستغلال موقعه الستراتيجي. وفرضت اجواءاً خانقة من التخلف والتردي والتراجع مما أدى إلى اندثار المنجزات الحضارية والعمرانية والثقافية التي حققها العباسيون.                                                                             

وقد داست هذه الإدارات الاستعمارية الأجنبية على مصالح أبناء العراق ومشاعرهم الوطنية وأشاعت في صفوفهم طوال أكثر من ستة قرون وستة مقود (1258- 1921) اليأس من إمكانية استعادة سيادتهم واستقلالهم في وطن عزيز ينعم أبناؤه بخيراته ويؤدي الدور الحضاري الإنساني البارز الذي يؤهله له تاريخه العريق وميزاته الطبيعية الغنية وموقعه الستراتيجي المهم، واستمرت هذه الحالة حتى قيام الحكم الوطني في مطلع هذا القرن اثر الحرب العالمية الأولى.                                                                                         

في عام 1921استبشر أبناء العراق بعد 663سنة من الاحتلال الأجنبي والنهب والقهر والتخلف المريع في ظل السيطرة الأجنبية بقيام الحكم الوطني الذي كان خطوة كبيرة في انتشال العراق من براثن تلك الفترة المظلمة بكل ما حفلت به من قيود مكبلة لإرادة الحياة والتقدم والنماء في هذا البلد العظيم. إلا ان الحكم الوطني الناشئ واجه، وهو في مهده، تركة ضخمة من التخلف والتردي في جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإدارية جراء أكثر من ستة قرون من الاحتلال الأجنبي. كما واجه عبئاً ثقيلاً يتمثل بهيمنة استعمارية بريطانية مباشرة دامت اثنتي عشرة سنة حتى 1933وتدخلات ونفوذ وقيود بريطانية دامت عقدين ونصفاً حتى قيام ثورة 14تمون 1958. ولهذين السببين ولأسباب أخرى تتصل بحداثة تجربة الحكم الوطني المستقل سواء في العراق أم في معظم البلدان العربية والنامية، ولغياب القائد الوطني الذي يستطيع ان يستجمع كل طاقات هذا الشعب ويستلهم تاريخه المجيد ويبلور إمكانيات أبنائه، لكل هذه الأسباب اخفق الحكم الوطني في فتح أبواب واسعة أمام الإرادة الوطنية العراقية الحرة في ترسيخ سيادة هذا البلد وتعزيز استقلاله الوطني والتوجه العلمي الصادق إلى استثمار خيراته الكبيرة وطنياً واستلهام ماضيه المشرق في بناء دولة قوية حديثة ترعى مصالح الشعب وتحقق رفاهه وتقدمه وتفتر أمامه سبل المستقبل المشرق والإسهام الجاد في الممل الحضاري الإنساني الذي أسهم فيه من قبل بادوار ريادية أساسية عظيمة في عصور متواصلة منذ العهد السومري ومروراً بالعهود الاكدية والبابلية والأشورية والعباسية على مدى أكثر من الآف سنة.                                                                                   

وعندما قامت ثورة 14تموز 1958بعد العهد الملكي لم يتغير الحال جذرياً طوال السنوات العشر التي أعقبتها، بسبب انحرافها عن المسار القومي وبروز النزعة الشعوبية وكذلك بسبب حالة عدم الاستقرار والاضطراب والانقسام والتناحر السياسي التي عمت البلاد وضعف الحكومات وتذبذب اتجاهاتها في مسارات استبدادية مما حرمها من فرصة تمثيل مصالح شعب العراق تمثيلاً حقيقياً والتعبير عن طاقاته وقدراته وطموحاته المتمثلة بتحقيق الاستقلال الوطني الكامل والتقدم الاقتصادي الشامل والنهوض الثقافي والعلمي والتعبير عن أماله وأمانيه في خدمة الأهداف القومية العليا وتجسيدها بالسعي إلى وحدة الأمة العربية والتضامن بين أبنائها وتحرير أجزائها المغتصبة.                             

وفي الثامن من شباط 1993 جرت محاولة جادة لتصحيح مسار ثورة الرابع عشر من تموز 1958ووضع العراق في مكانه الريادي الطبيعي في مسيرة الأمة العربية نحو التحرر الكامل والوحدة والرفاه والتقدم.                           
وقاد حزب البعث العربي الاشتراكي هذه التجربة الجديدة المتمثلة بثورة الثامن هن شباط «14رمضان 1963» وسعى لتحذيرها وإرسائها على قاعدة صلبة من العمل الوطني والقومي. غير ان ثورة الثامن من شباط كانت تفتقر إلى القائد الوطني المؤهل لقيادة سلطتها وإحكام الموازنة بين الإمكانيات الواقعية والطموحات والقادر على وضع كل طاقات الحزب والدولة في خدمة مسارها المتقدم إلى أمام وفي إطار من التفاعل الصميمي والحركة الدائبة باتجاه التغيير الايجابي والتحديث والتطوير. وقد أدى غياب القائد الوطني التاريخي عن مسيرة ثورة الثامن من شباط إلى سقوط هذه الثورة ولما تكمل سنة واحدة من عمرها.                                                                                         

وبعد عشر سنوات من هذا التغيير جاءت ثورة (17-30) تموز 1968لتضع حداً تاريخياً فاصلاً. فبعد سبعة قرون وعقد من الزمن وضع الحجر الأساس لحكم وطني يعبر تعبيراً حقيقياً وكاملاً عن إرادة أبناء هذا الوطن ويجسد أمانيهم وقدراتهم ويمثل إمكانيات العراق الجبارة وثرواته وخيراته وميزاته الستراتيجية مستلهماً في ذلك كله تاريخ العراق الحافل بالبناء والعمران والإسهام الحضاري الرائد والبطولات الكبيرة، ويضع كل هذه الإمكانيات والخبرات في خدمة أبنائه وبما يعود بالنفع على أشقائه في الوطن العربي الكبير.                                                          

وكان الجهد الخلاق الذي بذل في هذا الإطار مرتبطاً هو الآخر بقائد من أبناء العراق ترعرع في أريافه وبواديه وفي قراه ومدنه، وأحس بمعاناة مواطنيه، وعاش أمالهم وطموحاتهم وأمانيهم، وشب في بيئة وطنية صارعت الاستعمار وفي بيئة معبأة بمشاعر قومية، تستذكر مآثر وبطولات القائد العراقي الكبير صلاح الدين الأيوبي، كما شب في خضم صراع مرير خاضه شعب العراق وفي المقدمة منه طليعته المناضلة من اجل بناء دولته الوطنية القومية الديمقراطية الحديثة المتقدمة المستقلة.                                                    
ولم يكن هذا القائد بعيداً عن ذلك الصراع، بل انضم منذ سني شبابه الأولى إلى التيار الوطني القومي وتصدر صفوفه بعد فترة وجيزة ليقود العمل الوطني المتجه نحو انجاز المهمة المذكورة. انه القائد صدام حسين الذي انتمى في الخمسينات إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، احد ابرز فصائل العمل الوطني والقومي آنذاك، وناضل في صفوفه عبر مراحل العمل السياسي المختلفة التي مر بها العراق حتى تبوئه مكانته القيادية في أواخر عام 1963 وبداية عام 1964، ومضى يستجمع قوى الحزب عقب ردة 18تشرين الثاني، ويعمل على ترسيخ وحدة المناضلين البعثيين في إطار الشرعية الحزبية. حتى نضجت الظروف الملائمة للتغيير بعد 4سنوات عندما قاد ثورة السابع عشر من تموز 1968.                                                                                 

ولئن بدأ القائد صدام حسين عملية التغيير الجذري في ذلك اليوم فإن ذلك لم يكن إلا الصفحة الأولى الأساسية. إذ ما لبث ان قاد رفاقه بعد ثلاثة عشر يوماً فقط إلى انجاز الصفحة الثانية لتطهير الثورة من بعض العناصر التي فرضت نفسها وفرضتها الظروف الصعبة التي رافقت عملية الإمداد لتنفيذ الثورة في حلقاتها الأخيرة. وكان هذا العمل الحاسم هو الذي أعاد للثورة هويتها الحقيقية وفتر الباب أمام بناء نظامها السياسي الجديد الذي قاد الرئيس القائد صدام حسين من خلاله عملية بناء دولة العراق الحديثة القوية المستقلة المستندة إلى قاعدة راسخة من التقدم والازدهار والتنمية والتحديث بما يستلهم تاريخ العراق المجيد وإسهاماته الكبيرة في بناء الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الإنسانية.                 

وقد سعى القائد صدام حسين إلى جعل سلطة الثورة أساساً صلباً ينطلق منه العراقيون بهمة وقدرة وفاعلية مؤثرة مستلهمين تاريخهم المجيد الحافل بالبطولات والمآثر والانجازات الحضارية والتحديات الكبرى، ومنطلقين في دروب مفتوحة إلى المستقبل لإزالة ركام التخلف والتردي والركود عن جبين هذه البلاد الطيبة، وترسيخ الأرضية اللازمة لبناء نهضة حديثة في الميادين كافة لكي تستعيد بلاد الرافدين مكانتها البارزة في مسيرة التقدم والحضارة إقليمياً وعالمياً.                                                                                        

ولم يتحدد دور القائد صدام حسين بجانب واحد دون الجوانب الأخرى الضرورية من عملية القيادة التاريخية، بل كان العقل المفكر الذي يبدع الأفكار والمخطط الستراتيجي الذي يرسم الخطط والمشرف على التنفيذ الذي يضع صيغ التطبيق الجديدة والمبتكرة، والقائد الميداني الذي يشرف مباشرة على التنفيذ ويتابع نتائجه ويستنبط ما ينطوي عليه من دروس.                             
لقد كان القائد صدام حسين وراء كل الإجراءات التي عززت سلطة الثورة ومركزيتها وأضفت عليها طابع الاستقرار والثبات في مواجهة حالة عامة من القلق وعدم الاستقرار التي ميزت العمل السياسي في العراق وكثير من البلدان العربية عشية قيام الثورة.                                                                   

وعلى أساس من نظرة ثورية جذرية متناغمة مع إدراك واقعي شمولي يستوعب كل الظروف والمداخلات والملابسات المحيقة بالعمل الوطني والقومي في العراق، استطاع القائد صدام حسين ان يحافظ على مسيرة الثورة ويدرأ عنها محاولات شتى استهدفت الانحراف بها عن مسيرتها أو وأدها في مهدها أو إفراغها من محتواها الوطني القومي وتوجهها التقدمي المستقبلي.                                                                            

وكان أول عمل قاده القائد صدام حسين هو السعي إلى حماية سيادة العراق وإزالة كل ما كان يثلم أمنه ويشكل قيداً على إرادته الوطنية الحرة. وعلى هذا الطريق قاد القائد صدام حسين حملة وطنية شاملة لاجتثاث بؤر التجسس الأجنبية.                                                                                       

وكان تعزيز أمن البلاد وتركيز سلطة الدولة المركزية وتعزيز سيادتها الأرضية التي استندت إليها كل الانجازات الوطنية الكبرى الأخرى.              
وبعد عهود من التناحر والتوتر وفقدان التعاون والتنسيق بين فصائل العمل الوطني والقومي في العراق كان لابد للعهد الوطني الجديد ان يشيع الأجواء المناسبة للمصالحة الوطنية وإزالة الظروف السلبية التي سادت فيما مضى بين هذه الفصائل. وتجسد هذا الممل بالتوجه إلى حل المسألة الكردية في إطار الوحدة الوطنية وذلك منذ أشهر الثورة الأولى. وكان القائد صدام حسين هو العقل المفكر وراء هذه الخطوة الوطنية الديمقراطية المبدئية، والقائد الميداني للمفاوضات التي مهدت له، والمشرف على صياغتها في بيان الحادي عشر من آذار 1970 التاريخي الذي وضع أساساً راسخاً لإقرار الحقوق القومية للمواطنين العراقيين من أبناء القومية الكردية في إطار وحدة الوطن والأرض والشعب والدولة والنظام السياسي. وكان القائد الميداني أيضاً لوضح هذه الخطوة موضع التطبيق في قرار الحكم الذاتي الذي نفذ في موعده المحدد في الحادي عشر من آذار عام 1974وتأسيس إدارة ذاتية لمنطقة الحكم الذاتي ومجلس تشريعي منتخب لها.                                                                          

ونهض القائد صدام حسين بالجهد الكبير لحماية هذه الخطوة الوطنية الديمقراطية الكبرى من محاولات الانقضاض والتأمر والانحراف طوال السنوات الماضية. وقد استكمل هذا الانجاز بخطوات وطنية ديمقراطية أخرى على ذات الطريق تمثلت بمنح المواطنين العراقيين من التركمان ومن الناطقين باللفة السريانية الحقوق الثقافية القومية.                       

وكان الإجراء الوطني والديمقراطي الأخر الذي رسم القائد صدام حسين أساسه الفكري ووضع خطوطه العملية وقاده إلى مرحلة التطبيق هو قيام الجبهة الوطنية والقومية التقدمية في تموز 1973، فقد أولى موضوع العلاقات بين القوى الوطنية والتقدمية اهتماماً فائقاً وبذل جهداً كبيراً من اجل إقامة الجبهة بينها، ووضع صيفها النظرية والفكرية وتشكيل أطرها التنظيمية.                                                         

وثمة مسألة خطيرة تتصل ببناء الدولة القومية الحديثة المنشودة في هذه البلاد الخيرة هي مسألة تعزيز الاستقلال السياسي وترسيخه على أساس ثابت وصلب من الاستقلال الاقتصادي في حدوده الوطنية الممكنة.        
فعلى الرغم من كل الإجراءات الجذرية التي اتخذتها قيادة الثورة على طريق انجاز المهمة التحررية الأساسية المتمثلة بالاستقلال السياسي مثل الخطوات الرامية إلى تعزيز الأمن الوطني وحماية السيادة الوطنية وتركيز السلطة الوطنية المركزية ودره محاولات الاختراق والجيوب الأجنبية. فإن الرئيس القائد صدام حسين كان يدرك بفكر« الوطني الثاقب ورؤيته الستراتيجية ونظرته الاستشرافية المستقبلية ان الاستقلال السياسي بلا استقلال اقتصادي في خطوطه الأساسية وفي إطار الإمكانيات الوطنية المتاحة يبقى إطاراً هشاً يسهل الانقضاض عليا وإفراغه من جوهره وتحويله إلى شكل بلا مضمون.                                                  

ولذلك سعى القائد صدام حسين منذ بداية الثورة إلى اتخاذ إجراءات تدرجت في مستوياتها وشدة فاعليتها مع تصاعد إمكانيات الثورة الذاتية ورسوخ سلطتها الوطنية المركزية وصولاً إلى اتخاذ الخطوة الستراتيجية الأساسية لتحقيق الاستقلال الاقتصادي في 2حزيران 1972 بتأميم عمليات شركة نفط العراق، وقد اكتملت بالخطوات اللاحقة التي أنجزت في كانون الأول 1175 بتأميم ما تبقى من الحصص الأجنبية في صناعة النفط العراقية.                                                                       

وبدمج صناعة النفط العراقية في الاقتصاد الوطني وضع القائد صدام حسين أساساً راسخاً لتعزيز استقلال البلاد وتحرير الثروة الوطنية نهائياً من الإدارة الأجنبية التي لا تنسجم بالضرورة مع مصالح العراق الوطنية العليا ان لم تتعارض معها في كثير من الأحيان.                                                     

كما هيأ هذا الانجاز التاريخي الأرضية الصلبة لانجاز أخر فتر الأبواب واسعة لتحقيق طموح العراقيين جميعاً إلى بناء الدولة الحديثة في هذه الأرض المعطاة وهو إطلاق مسيرة التنمية الشاملة. فما ان توفرت الموارد اللازمة للبلاد اثر نجاح عملية التأميم حتى بدأت الدولة بإجراءات شاملة للتخطيط لعملية تنمية جذرية بهدف بناء اقتصاد وطني متين وتحقيق زيادات عالية في الدخل القومي ورفع مستوى معيشة الفرد وتضييق الفجوة بين المدينة والريف وبين فئات المجتمع المختلفة في إطار واسع من التحديث وإطلاق مواهب جميع الأفراد وطاقاتهم في عملية البناء والعمران.                                                                             
وهنا برز مرة أخرى الدور القيادي الكبير للرئيس صدام حسين، إذ قاد مجلس التخطيط الذي اضطلع بمهمة التأسيس اللازمة لعملية التنمية. فأشرف على توفير المستلزمات الضرورية المتمثلة بتهيئة قاعدة البيانات والمعلومات اللازمة والتحليل الموضوعي لواقع الاقتصاد الوطني والبرمجة الزمنية لصياغة الخطط التنموية والترابط الزمني والنوعي بين الخطط والربط الموضوعي بين التخطيط القطاعي والتخطيط الإقليمي وتخطيط القوى العاملة وتحديد مسارات التخطيط البيد المدى، وتحقيق قدر عال من التوافق بين الأجهزة التخطيطية والأجهزة التنفيذية.                                                                          

وفي ضوء كل ذلك اشرف مجلس التخطيط بقيادة الرئيس صدام حسين على وضع الخطة البعيدة المدى والخطط المتوسطة المدى. وعلى مدى ربع القرن الماضي، منذ ان بدأت عملية التنمية الشاملة حقق العراق تطوراً عميقاً في جميع المجالات مما انعكس في تهيئة الأساس اللازم لنهوض حضاري شامل يستلهم الأمجاد الحضارية لهذه البلاد العريقة ويشق الطريق بثبات نحو المستقبل المشرق.                                                                                      

وفي إطار هذا النهوض كان للقائد صدام حسين الدور الريادي في أحداث نهضة ثقافية واسعة. فقد اشرف بنفسه على تقديم الرعاية الكاملة للمثقفين من علماء وأكاديميين وفنانين وأدباء ومبدعين في جميع حقول الفكر والثقافة والعلوم والمعرفة. وعمل من خلال إشرافه على وسائل الثقافة والإعلام والمؤسسات العلمية والتقنية على جعل دوائر الدولة المعنية وإمكانياتها في خدمة الإبداع والمبدعين وأهل المعرفة والعلم والثقافة والفنون والآداب في كل زاوية من زوايا العراق.                                                                               

وكما هو قدر بلاد الرافدين منذ أقدم العصور بحكم موقعها الستراتيجي، وبما حبا الله أهلها من خيرات وثروات وأمجاد مما لا يضاهيهم فيه أي شعب أخر، وما تختزنه ذاكرتهم التاريخية من تجارب خالدة في التنوير المعرفي والإشعاع الحضاري لا على ما يحيط بهم من أقاليم حسب، بل على كل سكان المعمورة من أقصاها إلى أقصاها، كان لابد للعراق في عهده الجديد من ان يؤدي واجبه والتزاماته إزاء أشقائه وان يأخذ مداه القومي في ضوء ما ينير دربه من فكر قومي، وإرث ثر من الإسهام المتواصل في قضايا أشقائه العرب من الجزائر إلى فلسطين.                                                                                  

كان هذا هو قدر العراق خصوصاً انه، كما ني العهود الزاهرة السابقة، اخذ يسير في طريق الاستقرار وامتلاك إرادته الوطنية الحرة وضمان سيادته وتصرف أبنائه في ثرواتهم وبناء حاضرهم والتخطيط لمستقبلهم المشرق.                                                                              

وفي هذا الميدان كان القائد صدام حسين هو العقل المفكر والقائد الميداني الذي يرسم السياسات ويضع الخطط لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه واقعيا من خطوات للتفاهم والتقارب والتضامن والتعاون على طريق الوحدة مع الأقطار العربية الأخرى. وكان هو الذي قاد التوجه القومي الأصيل الذي طبع مسيرة العراق عبر الثلاثين سنة الماضية وتجلى في الدور الرائد الذي أداه العراق في دعم نضال الشعب الفلسطيني ومقاومة المخططات الاستعمارية الصهيونية للسيطرة على مقدرات الأمة العربية وثرواتها وإضعاف إمكانياتها وتشتيت دولها وقدراتها.                                                                                  

وكان القائد صدام حسين المبادر إلى وضع صيغة المشاركة الفاعلة للعراق في معركة تشرين 1973، كما كان العقل المخطط لمواجهة حالة التردي والاستسلام والذي بذل الجهد القيادي الكبير لعقد مؤتمر قمة بغداد عام 1978. وبرز دور القائد صدام حسين في الجهد القومي الكبير الذي بذله عام 1988 لقيام مجلس التعاون العربي مع الأردن ومصر واليمن كشكل من أشكال التنسيق والتعاون على طريق الوحدة العربية.                                                     

أما على الصعيد الدولي فقد رسم القائد صدام حسين خطوط سياسته ومواقفه الدولية وقاد بنفسه الخطوات الأساسية لتنفيذ هذه السياسات والمواقف، وتجلى ذلك في تعزيز علاقات الصداقة مع الاتحاد السوفيتي السابق وروسيا فيما بعد ومع الصين وفرنسا، وهو الذي رسم سياسة العراق في إطار حركة عدم الانحياز واهتم اهتماماً شخصياً بتوطيد الاتجاهات الاستقلالية التقدمية في هذه الحركة.                                                                                                

كما رسم القائد صدام حسين سياسة العراق إزاء القوى الغربية على أساس واقعي يستند إلى الحرص على الاستقلال الكامل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والتعاون في إطار المصالح المتبادلة المتكافئة.                             

وفي إطار بناء العراق القوي المستقل الذي يضطلع بادوار وطنية وقومية وإنسانية رائدة كان لابد من بناء القوات المسلحة على أسس حديثة وتجهيزها بأخر الأساليب والقدرات التقنية والتسليحية وتوسيعها عدداً وعدة وزيادة الكفاءة العلمية لكوادرها الفنية. وهنا برز القائد صدام حسين في قيادة هذا القطاع كما هي الحال في القطاعات الأخرى. فكان العقل الستراتيجي المخطط والقائد الميداني الفعلي في سوح القتال والتدريب والتأهيل وهو الذي خطط للصناعة العسكرية وقادها واشرف على توسيعها لتوفير الخفيفة والمتوسطة معظم أنواع الأسلحة وبعض أنواع الأسلحة الثقيلة للقوات المسلحة.                                                   

وقد تجلى دوره القيادي العسكري هذا في قيادة شعب العراق وجيشه في معركة مصيرية طاحنة فرضها النظام الإيراني على العراق في عام 1980، فخاضها المراقبون تحت راية القائد صدام حسين حتى شوطها الأخير في أواسط عام 1988 محققين انتصاراً كبيراً لبلدهم وأمتهم ولمسيرتهم الناهضة ولسيادتهم ومنجزاتهم الوطنية. وكان القائد صدام حسين المبادر الأول والمشرف على وضع الأساس للنهضة العلمية التقنية والصناعية في البلاد فكان يرعى رعاية مباشرة إدخال الطاقة النووية في الصناعة المدنية العراقية، وتحديث القطاع الصناعي وتوسيعه وإتاحة أوسع الفرص لانطلاقته ورفع كفاءة إنتاجه وتحسينها نوعاً وكماً.                                                                                         

كما كان القائد صدام حسين يشرف بنفسه على الجهد الكبير لنقل التكنولوجيا المتقدمة إلى العراق وتوطينها وتأهيل الكوادر الوطنية في ضوء أخر حلقات التقدم العلمي والتقني في العالم.                                                            

وفي ضوء التجارب المرة التي واجهتها التنمية في اغلب البلدان النامية والاشتراكية من هدر للموارد وترهل إداري بيروقراطي وتدهور في الإنتاج والإنتاجية قاد الرئيس صدام حسين توجهاً غاية في الأهمية لتقويم مسيرة الإنتاج الصناعي والعمل الإداري في مختلف قطاعات الدولة في أيلول 1977في ما سميت آنذاك ندوات الإنتاجية.                                                             

ثم عاد في شباط عام 1987 ليقود عملية إصلاح شاملة وجذرية للبنى الإدارية والإنتاجية في مختلف قطاعات الدولة أدت إلى إزالة الحلقات الإدارية الفائضة المعرقلة وتحديث أساليب القيادة والإنتاج والتخلص من أشكال الهدر واللامسؤولية والتدهور في الإنتاج كما ونوعاً وفي الإنتاجية.
وبعد عقدين ونيف من هذه المسيرة الفنية الحافلة بالانجازات والتحديات فرضت على العراق حرب واسعة النطاق للاقتصاص من شعبه الثابت الخطى على مسيرة النهوض والتقدم والمتحدي للمخططات الاستعمارية والصهيونية في المنطقة. وبدأت هذه الحرب بالعقوبات الاقتصادية التي بدأتها الولايات المتحدة بإجراءات انفرادية في شباط 1990 ثم ما لبثت ان أخذت طابعاً دولياً شاملاً عندما فرضتها الولايات المتحدة على مجلس الأمن لتصدر باسمه في السادس من أب1910 ولتبدأ مرحلة جديدة خطيرة من تاريخ العراق الحديث.                                                         

وقد تصدى القائد صدام حسين لهذه المرحلة الجديدة من التأمر على العراق تحت ذريعة ما حصل في الكويت في الثاني من أب 1990. وقاد شعب العراق وجيشه لمواجهة صفحات المعركة في جوانبها المختلفة: الاقتصادية التي بدأت بفرض مجلس الأمن الحصار الشامل في 6 أب /1990 والعسكرية التي بدأت في العدوان الأطلسي الثلاثيني في 17/1/1991وانتهت بجانبها المعلن والشامل في أواخر شباط 1991، واستمرت متقطعة منذ ذلك الحين بهجمات صاروخية وجوية وتدخلات عسكرية مستمرة وتآمر علني وخفي لمحاربة شعب العراق في رزقه وغذائه ودوائه ومعرفته وتقدمه ومستقبله. واستقراره وخياراته السياسية المستقلة.                                                                                       
  
وفي إطار ملحمة أم المعارك ضد الحملة الاستعمارية الانكلو- أميركية المستمرة كان لابد للقائد صدام حسين ان يكون العقل المخطط لإعادة بناء ما هدمه المعتدون ولإزالة ركام ما خربوه في كل ميادين العمل والحياة في العراق، وكان المفكر والقائد الميداني الذي يبدع الأفكار ويضع الصيغ ويرسم الخطط لتمكين دوائر الدولة من مواجهة معضلات الحصار القاسية وجعلها قادرة على خدمة الشعب ومساعدته على مواجهة هذا الظرف الطارئ.                                                                              

وكان يقود ميدانياً توجه الدولة والحزب لتطويق آثار الحصار الضارة بالناس واستقرارهم والتقليل من أضرارها النفسية والاجتماعية وحصرها في اقل زاوية ممكنة من خلال السعي الجاد لتأمين استقرارهم وأمنهم الغذائي والاجتماعي.                                                                      

ولئن كانت رسالة الرئيس القائد صدام حسين في كانون الأول 1995ثالث إجراء تقويمي شامل للوضع الاقتصادي وللأداء الإداري في دوائر الدولة، فأنها تميزت بأهمية وطنية كبرى لأنها وضعت الأساس الراسخ لتعزيز صمود البلاد في وجه مؤامرة الحصار وللمضي بمسيرة القطاع الاشتراكي الذي كان لوجوده ومضيه في هدي توجيهات القائد صدام حسين ابعد الأثر في تأمين مستلزمات صمود الشعب والدولة في وجه الحملة العدوانية الاستعمارية المتعددة الوجوه والفصول، وفي ضمان تقدمهما بخطى راسخة على طريق النصر والظفر بفعل القيادة التاريخية للقائد صدام حسين وبفعل التفاف شعب العراق حولها وتأييده الكامل لسياستها ومواقفها.                                                                  

وكان هذا الالتفاف والتأييد تعبيراً حياً عن المسيرة الديمقراطية العميقة التي رعى القائد صدام حسين "حفظه الله" انطلاقتها وفصولها واحداً اثر الأخر منذ أشهر الثورة الأولى، فكان حل المسألة الكردية وإعلان الجبهة الوطنية خطوتين أساسيتين على هذا الطريق استكملتا بخطوات مهمة أخرى قادها القائد صدام حسين ورسم طريقها الفكري وصيغها التنفيذية. وتجلت هذه الإجراءات بإتاحة أوسع الفرص الديمقراطية لمنتسبي المهن وشرائح المجتمع المختلفة لإنشاء نقاباتهم واتحاداتهم وجمعياتهم المهنية والعلمية.                                                                             

ثم ما لبث القائد صدام حسين ان أطلق التجربة الديمقراطية التمثيلية (النيابية) ورعى مسيرتها سواء في المجلس التشريعي لمنطقة الحكم الذاتي أم في المجلس الوطني لعموم البلاد. ووسع القائد هذه الممارسة الديمقراطية توسيعاً شاملاً في الاستفتاء على منصب رئيس الجمهورية في عام 1995 عندما اختار الشعب رئيسه اختياراً ديمقراطياً حراً مباشراً أول مرة في تاريخ العراق حتى أصبح يوم الزحف الكبير عنواناً بارزاً من عناوين القيادة التاريخية للقائد صدام حسين ولالتفاف شعب العراق حوله.                                                             
ولم يكتف القائد صدام حسين بأطر العمل الديمقراطي التمثيلي الكثيرة في البلاد من منظمات حزبية ونقابية ومجلس وطني بل كان يحرص على الاتصال المباشر بالناس من مختلف شرائح المجتمع والالتقاء بهم في أمكنة عملهم وسكنهم يستمع إليهم ويلمس مشكلاتهم ويتحسس قضاياهم ويطمئن على أحوالهم ويتعرف إلى أداء دوائر الدولة وخدماتها المتصلة بهم ويصفي إلى مقترحاتهم وأرائهم.                                                                                       

ومن خلال كل هذه الأوجه وغيرها برزت القيادة التاريخية للرئيس القائد صدام حسين «حفظه الله ورعاه » الذي خطط للثورة وقادها ميدانياً وأدار دفة حكومتها ورسم كل خطواتها وانجازاتها وتصدر كل معاركها وتحدياتها وما يزال يقود مسيرتها التي هي مسيرة كل أبناء العراق على اختلاف انتماءاتها العرقية والاجتماعية والجغرافية والسياسة باتجاه الظفر الكامل على مؤامرة الحصار الغادرة، وعلى طريق العزة والرفاه والخير والمزيد من التقدم والازدهار. وهذه القدرة القيادية الفذة ليست إلا تجسيداً لعبقرية الأمة العربية ولعظمة شعب العراق اللذين أنجبا القائد صدام حسين.                                                                               

ولئن كانت قيادته التاريخية هذه نتاجاً للعملية التاريخية فأنها، في الوقت نفسه، تؤدي دوراً فاعلاً تغييرياً في هذه العملية في ما يبدعه القائد صدام حسين من فكر ونهج عملي، ولنا في قوله: "لا يستهويني الطريق المطروق في التعبير ولا في النهج" خير دليل على ما تتسم به قيادته من تفرد وعظمة وإبداع متجدد.                                                     
                                         
----------------------------------
الفصل الخامس
العراق المعاصر
1-عرض تاريخي

شهد العراق على امتداد تاريخه تغييرات وصراعات داخلية وخارجية تركت أثارها واضحة في أوضاعه الاقتصادية وتركيبته الاجتماعية ودوره الثقافي والحضاري. وتميزت الفترة الممتدة من عام 1912 وحتى عام 1968 بنمط خاص من الصراعات والتغيرات السياسية تبعاً لتبدلات الأوضاع الدولية ومستجداتها وما تقتضيه المصالح البريطانية الإستراتيجية في العراق.                                                            
وشهد العراق في هذه الفترة تحولاً تاريخياً كبيراً تمثل بالقضاء على الحكم الملكي وإنشاء الجمهورية العراقية أول مرة في الرابع عشر من تموز عام 1958.                                                                                         
إلا أن هذا التحول كبير، وما رافقه من تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية، لم يحسم الصراع مع القوى الأجنبية لمصلحة القوى الوطنية التحررية.. واستمرت المواجهة بأساليب مختلفة وواجهات متعددة. حتى حسم الأمر نهائياً لمصلحة الشعب العراقي والأمة العربية بثورة 17-30 تموز المباركة عام 1968.. وأصبح العراق أول مرة  في تاريخه الحديث مستقلاً استقلالاً حقيقياً سياسياً واقتصادياً.. ووضع إمكاناته البشرية وثرواته الاقتصادية في خدمة قضايا الأمة المصيرية.                                                                          

تأسيس الدولة العراقية                                                
بعد أيام قليلة من إعلان الحرب العالية الأولى بتقدم القوات البريطانية في منطقة الخليج العربي بالاتجاه شمالاً فنزلت إلى البر قرب شط العرب واحتلت الفاو في 6نوفمبر/تشرين الثاني (1914) وتم لها احتلال البصرة في 23نوفمبر/ تشرين الثاني 1914. وشكل ذلك القاعدة الأساسية استمرار الحملة لاحتلال العراق مدينة اثر مدينة، وفرض الحكم المباشر عليه بعد ان دخل جيش الاحتلال بغداد وصرح قائده الجنرال مود معلناً في 16 مارس /آذار سنة 1917 أنه دخلها محرراً.                          
إن احتلال بريطانيا العراق ووضعه تحت حكمها المباشر وافتضاح أمر معاهدة سايكس -بيكو السرية بين بريطانيا وفرنسا  وما ترتب من أثار على ترافق ذلك مع إعلان وعد بلفور بشأن فلسطين فضلاً عن أمور أخرى، تفاعلت جميعها لتشجع الزعماء العراقيين على المطالبة باستقلال العراق.                                                                                
وكانت قرارات مؤتمر سان ريمو سنة 1920م بوضع العراق تحت الانتداب البريطاني السبب المباشر لقيام ثورة السرين التي أفضت إلى قيام حكومة مؤقتة وتأليف أول وزارة وطنية برئاسة السيد عبد الرحمن الكيلاني نقيب الإشراف في بغداد. واجتمع مجلس الوزراء أول مرة في داره في اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني سنة 1920م.                                                                
ويعد ذلك تمهيداً لسن قانون أساسي للبلاد وتشكيل مجلس نيابي، ومن ثم قيام النظام الملكي فاختير الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق إذ قرر مجلس الوزراء العراقي فيما بعد في جلسته يوم 11حزيران 1921م المناداة به ملكاً شرط ان تكون حكومته دستورية، نيابية، ديمقراطية، مقيدة بالقانون، وحصل الأمير فيصل على 99% من أصوات المواطنين ليصبح مؤسس الدولة العراقية الحديثة.                                                                                        
وكان أمامه نوعان من المشكلات المتداخلة :                                        
1- على الصعيد الداخلي: النهوض ببرنامج وطني كامل وإحداث تغيير في مختلف ميادين التخلف والموروثة عن العهد العثماني وفي مقدمة تلك المهام تحقيق العدل، ونشر الأمن والاستقرار في ربوع البلاد، وبناء قدرة عسكرية واقتصادية متوازنة ومناسبة.                                                              
2- وعلى الصعيد الخارجي: تحديد طبيعة العلاقات مع بريطانيا.             
يؤكد عبد الرزاق الحسني في موسوعته «تاريخ العراق السياسي الحديث ». ج 1، ط 7 ان للملك فيصل الأول مذكرات خطيرة كتبها في ظروف خاصة وفيها ما يوضح بشكل لا لبس فيه طبيعة المشكلات المعقدة التي واجهت الملك آنذاك ويمكن استخلاص بعضها كالآتي:                                                
1- إن البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينبغي ان يتعزز فيها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية وهو الوحدة الفكرية والملية والدينية، الأمر الذي يحتاج من ساستها «ان يكونوا حكماء مدبرين، وفي عين الوقت أقوياء مادة ومعنى، غير مجلوبين لحسيات أو أغراض شخصية أو طائفية أو متطرفة، يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوة معاً...»                                                                        
       ولذا «فان عدم المبالاة بالرأي بتاتاً، مهما كان حقيراً، خطيئة لا تغتفر».

2- الحكومة اضعف من الشعب بكثير. ففي المملكة ما يزيد على المائة ألف بندقية، يقابلها 15الف بندقية حكومية «ولا يوجد في بلد من بلاد الله حالة حكومة وشعب كهذه، هذا النقص يجعلني أتبصر وأدقق، وأدعو أنظار رجال الدولة، ومديري دفة البلاد للتعقل  وعدم المغامرة ».                                            
وفي مواجهة هذا الواقع، وضع الملك فيصل معالجاته في إحدى عشرة فقرة تتركز في بناء جيش وطني راسخ القوة والقدرة، وتحقيق العدل والمساواة بين فئات وطوائف الشعب كافة، وتسوية مشكلة الأراضي، واعتماد الإدارة وتأكيد اللامركزية في الألوية والبلديات، وإعداد الموظفين المهرة، وتوسيع وتأكيد المعارف، والفصل بين السلطتين التشريعية و(الإجرائية) واعتماد أسلوب النقد البناء الهادف في علاقة الصحف والأحزاب بالحكومة. وضمن إجراءاته أكد الملك فيصل ضرورة إعادة النظر في الموقف الاقتصادي باتجاه تطوير الإنتاج الزراعي وتنمية القطاع الصناعي.                                                                  
أما على الصعيد الخارجي وتحديد طبيعة العلاقات مع بريطانيا، فقد واجهت الحكومة الملكية في العراق تعقيدات خطيرة يمكن إجمالها في وضع العراق تحت الانتداب البريطاني وربط ذلك باحتفاظه بولاية الموصل..                                                                           
وفي 19صفر 1341(10 تشرين الأول 1922) توصل الطرفان إلى التوقيع على معاهدة مدتها عشرون سنة الحق بها بروتوكول جعل مدتها أربع سنوات وذلك في 14رمضان 1341هـ (30نيسان 1923).                                    
لقد بين الملك فيصل ان من أهم الأسس التي نصمت عليها المعاهدة اعتراف بريطانيا بالاستقلال السياسي للعراق واحترام سيادته الوطنية وتعهدها بأنها سوف تعمل ما في وسعها لإدخال العراق في عصبة الأمم.                             
وتعد هذه من اعقد مراحل العلاقات العراقية البريطانية، للتداخلات والتناقضات في الرؤى السياسية للمعاهدة والدور البريطاني في العراق مما جعل الملك فيصل يلعب دور الموازن بين رغبات وإرادة العراقيين من أحزاب وقوى سياسية واجتماعية وعناصر وطنية أخرى، ورغبات الحكومة البريطانية.                                                                                      
ولكي تضمن بريطانيا موافقة المجلس التأسيسي الذي كانت مهمته الأولى التصديق على المعاهدة، اتخذت من مشكلة الموصل بين العراق وتركيا أساساً للضغط على العراق حكومة وشعباً من اجل التصديق على المعاهدة خصوصاً وان الوزارة العراقية برئاسة عبد المحسن السعدون حذرت عام 1923 من الخطر الخارجي التركي على وحدة العراق في ولاية الموصل. وقد اضطر المجلس التأسيسي إلى الموافقة على المعاهدة في منتصف ليلة العاشر من تموز 1924م معتمداً في موافقته على تأكيدات الحكومة البريطانية أنها ستعدل بأقصى ما يمكن من السرعة الاتفاقية المالية» بعد ان كان المجلس قد وجه انتقادات حادة إلى المعاهدة في تقريره المقدم في شهر نيسان 1924م.                                      
المجلس التأسيسي                                                     
بعد ان انتهت وزارة النقيب من نشر المعاهدة العراقية البريطانية في 13 تشرين الأول سنة 1922، اجتمع مجلس الوزراء يوم 17من ذلك الشهر وبحث مسألة الانتخابات للمجلس التأسيسي فقرر باتفاق اغلب الآراء تأليف المجلس التأسيسي وكان أهم قراراته في هذا الصدد:                                            
1- وضع دستور (قانون أساسي) للمملكة العراقية.                                 
2- وضع قانون انتخاب مجلس النواب.                                               
3- بحث المعاهدة العراقية - البريطانية.                                              
وعلى الرغم من دعوة الحركة الوطنية إلى مقاطعة الانتخابات، فضا عن علماه الدين الذين أفتوا بمقاطعتها لأنها تمثل إرادة ملكية فرضتها بريطانيا فان الانتخابات أجريت في عهد وزارة عبد أحسن السعدون وأفتتح المجلس التأسيسي في 27 آذار سنة 1924، وحضر الافتتاح (84) نائباً من مجموع مائة نائب وألقى الملك خطبة الافتتاح دعا فيها إلى البت في  المعاهدة العراقية - البريطانية، وسن الدستور لتأمين حقوق الأفراد والجماعات وتثبيت السياسة الداخلية، وسن قانون الانتخابات للمجلس النيابي الذي يجتمع لينوب عن الأمة ويراقب سياسة الحكومة وأعمالها.                                                        
وقد حصل جدل واسع النطاق بين الحكومة البريطانية من جهة والحكومة العراقية من جهة أخرى، فضلاً عن الجدل الذي دار بين الملك فيصل والحكومة من جانب وأعضاء المجلس التأسيسي من جانب آخر، بين معارض للمعاهدة ومؤيد لها بعد إدخال بعض التعديلات عليها.                                           
وانتهى الأمر بالتصديق على المعاهدة كما هي تحت ضغط التهديدات البريطانية بالتخلي عن دعم موقف الحكومة العراقية من قضية الموصل، فوافق المجلس التأسيسي بتأييد (37) نائباً ومعارضة (23) واستنكف (8) عن التصويت. بلغ عدد الحضور ليلة (10) تموز 1924في الجلسة التي دعا إليها الملك فيصل الساعة 10.30 ليلاً قبل منتصف الليل (68) نائباً من أصل مائة نائب.                                                                                          
وعادت بريطانيا لتتخذ من قضية الموصل ذريعة لتمديد معاهدة سنة 1922خمسة وعشرين عاماً عن طريق عقد معاهدة جديدة مع العراق سنة 1926على الرغم من ان ولاية الموصل حسم أمرها لمصلحة العراق في مؤتمر سان ريمو 1920، وتنازلت تركيا عن العراق كله بما فيه ولاية الموصل في معاهدة سيكر سنة 1920 بموجب الفقرة الثالثة من المادة السابعة والعشرين واعترفت باستقلال العراق وسوريا تحت الانتداب بموجب المادة الرابعة والتسعين، بيد ان المعاهدة ألغيت اثر انتفاضة مصطفى كمال وتسلما مقاليد الحكم في تركيا وعقد مؤتمر لوزان في سنتي 1922 و 1923وعدم توصل بريطانيا وتركيا إلى حل مرض للقضية مما أفضى إلى إحالة الموضوع إلى عصبة الأمم بموجب الفقرة الثانية من المادة الثالثة من معاهدة لوزان. وبعد مداولات كثيرة، فضلاً عن رأي محكمة العدل الدولية الاستشاري وتقارير الخبراء تقرر ان تكون الموصل ضمن العراق تحت الانتداب البريطاني مدة خمسة وعشرين عاماً وذلك في 16كانون الأول 1925وهو القرار الذي اعتمدته بريطانيا للضغط على العراق للتوقيع على المعاهدة الجديدة سنة 1926م.                            

معاهدة سنة 1930 ودخول العراق عصبة الأمم                   
ألغت معاهدة سنة 1930 بين العراق وبريطانيا الانتداب على العراق وخلصت الخزينة العراقية من الأعباء التي كانت تتحملها في الصرف على الموظفين والمستشارين والخبراء البريطانيين، فضلاً عن نفقات المعتمد السامي البريطاني وحاشيته وألغت الامتيازات العدلية وأطلقت يد الحكومة في التمثيل الخارجي وأتاحت للعراق فرصة الوصول إلى مصاف الدول المستقلة الكاملة السيادة داخلياً وخارجياً.                                                                    
وقد جاءت المعاهدة في اثر الضغط الشعبي الذي دعم من موقف الحكومة العراقية في إلحاحها على طلب الدخول في العصبة واستيائها من المادة الثامنة في معاهدة عام 1927 التي اشترطت توقف بريطانيا عن ترشيح العراق لعضوية العصبة في عام 1932إذ قررت الحكومة البريطانية رفع القيد واتخاذ قرارها بترشيح العراق لدخول عصبة الأمم عام 1932.                                                                           
بعد توقيع المعاهدة بدأ نفوذ نوري السعيد رئيس الوزراء بالتفاقم وتألق نجمه السياسي حتى ان المصادر البريطانية الخاصة بدأت تضع شخصيته في مستوى واحد مع شخصية الملك الذي بدأ بدوره يخشى بقاء نوري السعيد تلك الفترة الطويلة في الحكم وما حققه من مكاسب سياسية ولدت فكرة عند المعارضة انه أصبح على حسب تعبير الملك «الكل في الكل، وأنا لست أكثر من ملك لا يملك من أمره إلا مظاهر السلطة» بدليل مماطلة نوري السعيد إزاء إلحاح الملك عليه في أهمية (النظر في قانون الوفاق الوطني لتأليف الجيش الذي يحتار إليه الوطن) بعد تراجع نوري السعيد عن تصريحات له أكد فيها أهمية اعتماد التجنيد الإلزامي وتوسيع الجيش وقد أحس البريطانيون بتصاعد الخلاف بين الملك فيصل ونوري السعيد وسجلوا ذلك في كتبهم السرية إلى لندن التي تشير إلى عزم الملك على تشكيل وزارة بديلة قوية لإلغاء الفقرات غير المقبولة في معاهدة 1930م  ونبهوا الملك إلى ان أي وزارة يختارها ينبغي ان تأخذ بنظر الاعتبار الاحتفاظ بأمتن العلاقات مع بريطانيا. ونشطت المعارضة بقيادة ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني لكسب تأييد شيوخ العشائر لإسقاط حكومة نوري السعيد.                                                                                           
ولم تكن الحكومة البريطانية، ونوري السعيد أيضاً، مرتاحة لقرار الملك فيصل تعيين الكيلاني رئيساً للديوان الملكي في 26حزيران 1932وقد اخذ الصراع بين الملك ونوري السعيد كامل أبعاده حينما عبر نوري السعيد عن موقفه المعارض لتكليف الهاشمي تشكيل وزارة جديدة، ورفض الاشتراك في أي وزارة وأي منصب وزاري «طالما بقي الملك فيصل على العرش» لأنه على حد تعبيره أصبح شيخاً «يصعب تغيير شخصيته».                                                                          
وفي طريق عودته من زيارة رسمية لبريطانيا عام 1932م، توقف الملك فيصل في مدينة برن عاصمة سويسرا لإجراء فحوصات طبية وعاده الطبيب (فايرل مرل) وأعطاه حقنة في الوريد قضت عليه بعد بضع ساعات وذلك عام 1933وسرت إشاعات وشكوك في موته دون ان يجري تحقيق في الموضوع ليدخل العراق مرحلة جديدة في حياته السياسة.                                           

الملك غازي يتسلم عرش العراق                                    
تسلم الملك غازي عرش العراق بداية أيلول اثر وفاة والده الملك فيصل الأول في ظروف غامضة. فقدمت حكومة الكيلاني استقالتها طبقاً للعرف والتقاليد الدستورية في 9ايلول 1933م. فعهد الملك إليه بتشكيلها ثانية بأعضائها السابقين كافة.                                                                                            
كان الملك غازي شاباً طموحاً وطنياً ومتحمساً، لكنه قليل التجربة وقد أفضى الصراع السياسي بين الأحزاب والشخصيات إلى تكليف السيد ياسين الهاشمي تشكيل الوزارة لنفوذه وشخصيته القوية القادرة على إنقاذ البلد من مأزقه الصعب، فشكل الوزارة الهاشمية الثانية في 17 آذار سنة 1935م التي شغل فيها الكيلاني وزارة الداخلية في حين شغل نوري السعيد الخارجية وجعفر العسكري وزارة الدفاع..                                                                               
وعلى الجانب الآخر، تشكلت معارضة سياسية من اليساريين أمثال كامل الجادرجي زعيم الحزب الوطني الديمقراطي. وجعفر أبو التمن ومبد القادر إسماعيل فضلاً عن حكمت سليمان الذي انسق عن حزب الإخاء وحمل لواء المعارضة.                                                                                        
وأعلنت الوزارة الجديدة بيانها ومنهاجها الداعي إلى احترام الملكية الدستورية وتعزيز الأمن والقدرة الدفاعية والاستقرار الاجتماعي والتمسك بسيادة القانون والقضاء على الأمية وضمان الانتخابات النيابية وتأكيد الروابط الأخوية مع الأقطار العربية وإقامة علاقات ودية مع إيران وتركيا.                                                                               
والأمر البارز في هذا العهد هو التوجه القومي الذي عبر عن نفسه بالدعم الذي قدمته الحكومة العراقية للثوار الفلسطينيين من خلال المال والسلاح والمتطوعين وإنشاء مقر للتدريب على استعمال السلاح دعماً لثورة الشعب العربي في فلسطين على الانكليز والصهاينة، وكانت السفارة البريطانية في بغداد على علم بذلك، وكان سببا لغضب انكليزي- يهودي على الحكومة العراقية.                                                                                                       
وبدأت المخططات المشتركة للتآمر على حكومة الهاشمي، فنجح الانكليز في إيقاع الخلاف بين الملك غازي والهاشمي عبر التلويح للملك بإمكانية قيام الهاشمي بقيادة انقلاب عليا وإعلان الجمهورية في العراق وكان ذلك بداية شروع الملك في التحريض على الهاشمي وحكومته عبر الاتصال بالمعارضين وكبار العسكريين أمثال بكر صدقي، وشهدت البلاد ثورات عديدة للعشائر العراقية في منطقة الرميثة وسوق الشيوخ والمدينة قرب القرنة، وثورة الشيخ شعلان العطية وغيرها من حالات الثورة والتمرد التي تركت وراءها حساسيات شخصية بين الشخصيات العراقية المتنفذة مثل جميل المدفعي وحكمت سليمان، كما ان قوى خارجية مثل إيران كان لها ضلع في إثارة النعرات واستثارة المشاعر ضد حكومة الهاشمي التي رفعت شكواها على إيران في عصبة الأمم فيما يتعلق بالحدود العراقية - الإيرانية، فضلاً عن التدخل الانكليزي المباشر وغير المباشر.                                                                                

انقلاب بكر صدقي                                                                
وسط هذه الظروف، تجمعت لدى الهاشمي معلومات عن أنشطة، يجريها بكر صدقي مع حكمت سليمان من جماعة الأهالي، فضلاً عن شيوخ العشائر المعارضة تعززها العلاقات التي عقدها بكر صدقي وحكمت سليمان مع ضابط المخابرات البريطانية جستن اليهودي الأصل والعلاقة المتينة مع السفارة البريطانية. وفي صباح 29تشرين الأول 1936بدأ بكر صدقي في انقلابه العسكري بعد تخطيط وتنسيق مع القادة العسكريين، وكان هدف الانقلاب مطالبة الملك بإقالة وزارة الهاشمي وتنصيب حكمت سليمان رئيسا للوزراء.                                         
ولتجنيب البلاد حرباً أهلية، قدم الهاشمي استقالته، وعهد إلى حكمت سليمان بتشكيل الوزارة، إلا ان ذلك لم يتم إلا بعد حركة اضطرابات قصفت فيها بغداد بالطائرات، وقتل وزير الدفاع جعفر العسكري الذي يعد من أوائل الساسة العسكريين الذين أسسوا الجيش العراقي وعملوا على تنظيم شؤونه ورفع مستواه وتزويده بالأسلحة الحديثة.                      
وهكذا جاء التغيير الوزاري على وفق إرادة بكر صدقي ونفت الوزارة الجديدة المدعومة من السفير البريطاني أقطاب الوزارة الهاشمية بعد فشل مؤامرة بكر صدقي وحكمت سليمان في اغتيالهم غدراً على غرار اغتيال جعفر العسكري وتحذير السفير البريطاني قادة الانقلاب بعد سماعه خطة الاغتيال من العواقب التي ستنجم عن اغتيال (ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني ونوري السعيد). يعد كل ما تقدم مرحلة جديدة لتحالفات جديدة إذ اتفق المتنفذون اليهود والحزب الشيوعي وجماعة الأهالي على دعم الانقلاب.                                                                        
وعطلت بعض الصحف وحل المجلس النيابي القائم وتعرضت الشخصيات القومية العربية لتهديدات بالقتل والاغتيال، واغتيل بعضهم فعلاً مثل رضا العسكري، نائب بغداد وشقيق جعفر العسكري، بأمر من بكر صدقي، وغادرت شخصيات قومية أخرى العراق خوفاً من بطش بكر صدقي.                                                                                
وفي ظل هذه الظروف توفي ياسين الهاشمي في بيروت في 21كانون الثاني 1937 اثر نوبة قلبية ودفن في دمشق إلى جوار صلاح الدين الأيوبي حيث اشتركت وفود عربية مهمة في تشييع ودفن جثمان فقيد القومية العربية والشخصية اللامعة التي جمعت بين الدهاء السياسي وعمق الفكر الاقتصادي والعسكري الرائد في التصدي عند الملمات الوطنية والقومية، فاستحق تقدير الشعب العربي وقادة العرب وزعمائهم جميعاً.                                                                                
ويبدو ان بكر صدقي تجاوز في طموحاته ما هو مألوف إلى حد الاستعداد لخلع الملك غازي واغتصاب العرش ومحاولة إقامة تغييرات جيوسياسية في أجزاء من العراق وإيران وتركيا.                                                         
وقامت حكومة حكمت سليمان بناء على تأثير بكر صدقي بتعطيل جمعية الدفاع عن فلسطين وتأكيد توطيد العلاقات مع بريطانيا، وعقدت معاهدة عام 1937مع إيران التي تم فيها التفريط بجزء من سيادة العراق على شط العرب.                                                                      
وإزاء ما تقدم، ائتلفت العناصر القومية والوطنية وبخاصة ضباط الجيش في بغداد والموصل لإنهاء عهد بكر صدقي بالقوة وبعد محاولات فاشلة، نجحت عملية اغتياله في مدينة الموصل ظهر يوم الاربعاء11 أب 1937م.                                                                              
ومرت البلاد بعدها بحالة من الاضطراب، وأقيمت حكومة لواء الموصل التي طلبت من الملك إقالة حكومة حكمت سليمان فأصدر الملك إرادته الملكية بتأليف وزارة جديدة برئاسة جميل المدفعي يوم 17 أب 1937مما أدى إلى إنهاء       العصيان في الموصل، وعودة الجيش إلى ثكناته.                                      
ولم يستقر الوضع السياسي في العراق وإنما شهدت وزارة المدفعي سياسة إسدال الستار عن جرائم انقلاب بكر صدقي، وعلى الرغم من سياساته المهادنة إزاء الكتلة القومية وإجراء الانتخابات النيابية وإعلان العفو عن القائمين بقتل بكر صدقي، وإقامة حفل كبير لتأبين الهاشمي فإن الوضع السياسي ظل غير مستقر بسبب اتهام الوزارة بالتخاذل والضعف أمام الانكليز.                                                                         
وتدخل الجيش مرة أخرى بقيادة العقداء «صلاح الدين الصباغ، ومحمد فهمي سعيد، وكامل شبيب، ومحمود سلمان » في اليوم الرابع والعشرين من كانون الأول 1938 وقرروا إسقاط الوزارة فوراً.                                              
واستقالت وزارة المدفعي، والفت الوزارة السعيدية الثالثة بعد ان أذعن الملك غازي لإرادة حركة العقداء الأربعة. إلا ان الفوضى ظلت تسود البلاد واستمر تدخل الجيش في شؤون الحكم استمراراً على النهج الذي أوجده عهد بكر صدقي ولاسيما بعد اغتيال جعفر العسكري، ولم تجد محاولات نوري لسعيد عبر إعلان الأحكام العرفية يوم 6أذار 1939للسيطرة على الأوضاع.                                                    

مقتل الملك غازي                                                                
وفي ظل هذه الأوضاع المضطربة قتل الملك غازي عام 1936 في حادث غامض جراء اصطدام السيارة التي كان يقودها وتناقلت منشورات كثيرة انه لم يمت موتاً طبيعياً، فاستقالت الوزارة السعيدية الرابعة بإرادة ملكية في 6نيسان 1939م.                                                                                          
لقد التأم الوضع بإعلان الأمير عبد الإله وصياً على الملك فيصل الثاني لصفر سنه ليشهد العراق مرحلة جديدة من حياته السياسية. ابرز الأحداث التي مر بها العراق من هذا التاريخ إلى قيام ثورة 14تموز وإعلان الجمهورية عام 1958م ما يأتي:                                                                                       
1- بعد إعلان بريطانيا الحرب على ألمانيا يوم 3 أيلول 1931 اتخذت الوزارة العراقية سلسلة إجراءات لتنظيم الحياة الاقتصادية والقضاء على سبل الاحتكار والاستقلال. وفي اليوم الخامس من أيلول من السنة. نفسها قرر العراق قطع العلاقات السياسية مع ألمانيا وإعلان التمسك بمعاهدة التحالف مع بريطانيا.                                                                                           
2- قتل وزير المالية رستم حيدر في مكتبة الرسمي يوم 18 كانون الثاني 1940، وهو من الذين أسهموا في تأسيس الدولة العراقية عام 1621، وتبين ان وراء الجاني شخصيات عراقية.                                                            
وقد اختلفت الآراء في الوزارة في تفسير سبب مقتل رستم حيدر بشكل يخالف اعتقاد نوري السعيد ان الهدف من وراء الجريمة إضعاف مركز الوزارة وتهديد حياة الوزراء مما يتطلب الحزم حفاظاً على الاستقرار ووحدة البلاد.                                                                        
لذلك قدم نوري السعيد استقالته من الحكومة في 18شباط 1940، ولكنه عاد ليؤلف الوزارة السعيدية الخامسة بعد اعتذار بعض الشخصيات مثل رشيد عالي الكيلاني، وأعلن نوري السعيد سياستها على الصعيدين الداخلي والخارجي، فعلى الصعيد الداخلي: تحقيق الأمن والاستقرار وتحسين شؤون الإدارة والاقتصاد وتحقيق التقدم الاجتماعي، والخارجي: توطيد الاستقلال، وتطوير العلاقات مع الدول التي تربطها بالعراق روابط القربى والمصالح المشتركة، وحماية الحدود من أي تهديد خارجي.                                                          
بيد ان البلاد ظلت تعيش حالة من انعدام الاستقرار والفوضى السياسية، مما دفع رئيس الوزراء إلى تقديم استقالته في 31أذار 1940 عد شهر واحد من الاستقالة السابقة لها.                                                                         
فالفت الوزارة الكيلانية الثالثة في 31أذار 1940 وضمت أربعة من رؤساء الوزارات السابقين منهم نوري السعيد وزيراً للخارجية وستة من الذين زاملوا نوري السعيد في وزاراته الثالثة والرابعة والخامسة.                                  
وكان هدفها المعلن توطيد الصلات مع الدول العربية، وتحكيم أواصر التعاون مع بريطانيا، وتقوية صلات الصداقة والتعاون مع الدول الأعضاء في ميثاق سعد اباد، وإدامة الصلات الودية مع الدول الأخرى.                                 
وعلى الصعيد الداخلي، السعي إلى تحقيق الأمن والاستقرار وصيانة الحريات وضمان احترام الدستور والشرعية.                                                         
إلا ان الكيلاني قدم استقالته في 31 كانون الثاني 1941 متهما القوى الأجنبية (بريطانيا) بالتدخل والإساءة للصلات بين رئيس الوزراء والوصي على العرش. فألفت وزارة العميد طه الهاشمي.                                               


حركة مايس 1941                                                             
اعتقد العقداء الأربعة صلاح الدين الصباغ، وفهمي سعيد،وكامل شبيب ومحمود سلمان المناصرون لرشيد عالي الكيلاني ان بقاء الكيلاني على رأس الحكم أمر ضروري لمواجهة الأطماع البريطانية في العراق والحفاظ على وجه العراق القومي، وانتهزوا فرصة نقل العقيد كامل شبيب من بغداد إلى الديوانية لتكتيل جهودهم مع قطعاتهم ليطلبوا من الهاشمي تقديم استقالة حكومته تمهيداً لعودة الكيلاني إلى الحكم.                                                                    
فقدم الهاشمي استقالة حكومته، وأحاطت قطعات الجيش بالقصور الملكية وهرب الوصي إلى البصرة ثم توجه إلى فلسطين لمراقبة الموقف من الخارج، وأعلنت حكومة الدفاع الوطني تنصيب الشريف شرف وصياً على عرش العراق بدلاً من الأمير عبد الإله.                                                                        
وعهد الوصي الجديد بدوره بمهمة تألف الوزارة الجديدة إلى رشيد عالي الكيلاني الذي ألف وزارته الرابعة التي ضمت ثلاثة من رؤساء الوزارات السابقين وعدداً من أشهر الوزراء.                                                       
وقد رفضت بريطانيا الاعتراف بالوضع الجديد، وأعلنت الحرب على العراق وقد استمرت طوال شهر أيار وتمكنت بريطانيا في نهايتها من القضاء على الحركة لانعدام التكافؤ في القدرات العسكرية. وعاد عبد الإله إلى بغداد وصياً على العرش تحت حماية الحراب البريطانية.                                                 
وترك العقداء الأربعة وتبعهم الوزراء بغداد إلى إيران إذ أعلنت الإدارة العرفية وصدرت أحكام غيابية على قادة الحركة ونفذ حكم الإعدام بالعقداء الأربعة فضلاً عن يونس السبعاوي وزير الاقتصاد والشخصية الوطنية المعروفة بعد ان سلمتهم إيران وتركيا إلى الحكومة العراقية.                    

العراق ودول الجوار

         تتاخم العراق أربع دول رئيسة هي تركيا وإيران وسورية والسعودية.
واستمرت الخلافات بين العراق ودول الجوار وبخاصة تركيا وإيران زمناً طويلاً.                                                                                        

تركيا                                                                               
عندما أقام الكماليون جمهوريتهم صاروا يطالبون بضم (ولاية الموصل) إلى أراضي الجمهورية التركية وفي حزيران سنة 1926وقع في أنقرة على نص المعاهدة العراقية الانكليزية التركية التي تم بمقتضاها تعيين نهائي لخط الحدود على وفق التخطيط الذي أقرته عصبة الأمم في 29تشرين الأول 1924.                                                                    
وفي ضوئه أكد مبدأ حسن الجوار، والتعاون المشترك باتجاه تحقيق الأمن والاستقرار بين البلدين. وقد عرضت المعاهدة على مجلس النواب ومجلس الأعيان وأقرت بالإجماع في 12حزيران 1929.                                    

إيران                                                                               
تأخرت إيران عن الاعتراف بالعراق دولة مستقلة حتى 25نيسان عام 1929، وفي 11أب من العام نفسه عقد اتفاق مؤقت بين البلدين يمنح رعايا الحكومتين العراقية والإيرانية حق أفضل الدول في أراضي الدولتين، ونص على تبادل السفراء، والقناصل. غير ان المشكلات ظلت تظهر بين الدولتين كحالة متصلة بالخلافات السابقة لتأسيس المملكة في العراق وإيران والتي شهدت توقيع العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الحدودية.                                                                             
ولأجله وقع على اتفاقية 1937 والبروتوكول الملحق بها التي استندت إلى البروتوكول المتعلق بتحديد الحدود التركية - الإيرانية لعام 1913ومحاضر جلسات لجنة تحديد الحدود لسنة 1914، فضلاً من تحديد خط الحدود في شط العرب مقابل عبادان ليسير خط الحدود على خط عمودي من خط انخفاض المياه بتالوك شط العرب.                                                                     
وفي ضوئه ابرم الطرفان معاهدة للصداقة بينهما في 18تموز 1937لتعبر عن الرغبة في تطوير العلاقات الثنائية وتأمين الاستقرار الإقليمي بين البلدين.                                                                 
وعلى هذا المنهج سارت الحكومة الملكية العراقية في تحديد العلاقات مع (نجد) في الخامس من شهر مايس عام 1922م. برعاية الحكومة البريطانية المعروفة باتفاقية لمحمرة، أعقبتها اتفاقية «بحرة» في الأول من تشرين الثاني 1925م التي أعقبت مؤتمر الكويت في كانون الأول 1923 لبحث موضوع العلاقات بين العراق ونجد.                                                               

ميثاق سعد آباد                                                                  
في ضوء الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية التي وقعت برعاية بريطانيا بين العراق وكل من تركيا وإيران وقع في قصر سعد أباد بطهران يوم 8تموز 1938 على معاهدة عدم الاعتداء بين العراق وتركيا وإيران والأفغان، وقد أشير إلى بواعث المعاهدة بالرغبة المشتركة في الحفاظ على روابط الصداقة وحسن التفاهم، والرغبة المشتركة في السلم والأمن في الشرق الأدنى بضمانات إضافية ضمن نطاق ميثاق عصبة الأمم تأميناً للسلم العام.                                                                           

أبرز الأحداث السياسية بين 1945-1958                                   
أولاً: - بعث الحياة الحزبية جمدت «الحياة الحزبية » في الوزارة الثانية للسيد ياسين الهاشمي في 17أذار 1935، إلا ان الأحداث السياسية اللاحقة التي مر بها العراق ولاسيما ثورة مايس 1941، وشعور ساسة البلد بأهمية تغيير أساليب الحكم التي فرضتها ظروف الحرب العالمية الثانية أدت إلى إعادة الحياة الحزبية عن طريق إجازة وزارة الداخلية في 20نيسان 1946 تأليف الأحزاب السياسية الخمسة الآتية :                                                                        
1- حزب الاستقلال بزعامة السيد محمد مهدي كبة ورفاقه                           
2- حزب الشعب بزعامة السيد عزيز شريف                                          
3- حزب الأحرار بزعامة الشيخ داخل الشعلان                                      
4- الحزب الوطني الديمقراطي بزعامة السيد كامل الجادرجي                          
5- حزب الاتحاد الوطني بزعامة السيد عبد الفتاح إبراهيم                         

وهي على اختلافها أكدت مسائل عديدة أبرزها تعزيز الحياة الديمقراطية النيابية، وتعديل المعاهدة مع بريطانيا ورفض إنشاء كيان لليهود في فلسطين والدعوة إلى تعزيز استقلال القضاء وتأمين الحريات الأساسية للمواطنين بموجب الدستور وتطوير العلاقات مر الدول العربية وتأسيس أنظمة متكافئة في مجال الاقتصاد والضمان الاجتماعي والتربية والتعليم.                                                                              
إلا ان هذه الأحزاب سرعان ما سحبت إجازاتها ومنعت من ممارسة أنشطتها.                                                                                       
ثانياً: عقد معاهدة صداقة وحسن جوار بين العراق وتركيا في 29أذار 1946يتعهد الطرفان بمقتضاها بإتباع سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية، والتشاور في الشؤون الدولية والإقليمية والتمسك بميثاق الأمم المتحدة.                                                                               
وتضمنت المعاهدة ستة بروتوكلات ملحقة بالمعاهدة تشمل:                  
1- تنظيم مياه دجلة والفرات وروافدهما.                                          
2- التعاون المتقابل في أمور الأمن.                                                
3- التعاون في أمور التربية والتعليم والثقافة.                                     
4- التعاون في مجال المواصلات البريدية البرقية والهاتفية.                   
5- الأمور الاقتصادية.                                                                
6- الحدود                                                                                
ثالثاً:- عندما قامت الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958ساور القلق الحكم الهاشمي في العراق والأردن مما دعاه إلى الإسراع إلى الأخذ بنظر الاعتبار المقترح البريطاني على لسان وزير الخارجية سلوين لويد فعقدت اجتماعات بين الملك فيصل الثاني ووفد رفيع المستوى من العراق والملك حسين في عمان في 11/2/1958وكانت نتيجة المباحثات التوصل إلى عقد اتفاق الاتحاد العربي بين الدولتين الذي أعلن في 14شباط 1958في قصر بسمان بعمان وهو ذات المشروع الذي سبق ان طرحه الملك عبد الله على الوصي عبد الإله في العراق عام 1950م ضمن مشروع عام لتوحيد البلدين.                                                                               
رابعاً:- القضية الفلسطينية                                                               
بعد إعلان بريطانيا عزمها على التخلي عن انتدابها على فلسطين، واستفحال الخطر الصهيوني في فلسطين أسهم العراق في اجتماعات مجلس الجامعة العربية الذي عقد في القاهرة في السابع من شباط 1948بوفد رأسه وزير الخارجية حمدي الباجه جي واستمر يتابع، بوصفه عضواً في اللجنة السداسية المشكلة في مجلس جامعة الدول العربية اجتماعات المجلس في محاولة للوصول إلى اتفاق عربي إزاء قضية فلسطين.                                                                               
ثم أسهم العراق بقواته المسلحة منذ 15 مايس 1948، وعندما أعلنت الهدنة الأولى أعلن العراق عدم التزامه بها مما دعا حكومة الأردن إلى التهديد بقطع تموين الجيش العراقي إذا إصر العراق على رفض الهدنة. كما رفض العراق قرار الهدنة الثانية مع الكيان الصهيوني الذي استخدم قرار الهدنة الأول ليعزز موقفه العسكري باتجاه احتلال أراضي ومدن عربية أخرى جديدة.                                                                 
من جانب آخر شرعت "الوزارة السعيدية الثالثة" قانون إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود الذين يظهرون الرغبة في السفر إلى(إسرائيل) دون ان تتخذ أي خطوة قانونية لتجميد أموالهم مما أدى إلى تهريب معظمها وقد بادرت الحكومة السعيدية الحادية عشرة فيما بعد إلى تجميد أموال المسقطة عنهم الجنسية العراقية وأصدرت القانون رقم (5) لسنة 1951م الخاص بمراقبة  وإدارة أموال اليهود المسقطة عنهم الجنسية العراقية.                                 

المعاهدات الثنائية وحلف بغداد                                  
وقع العراق مع بريطانيا معاهدة بورتسموث يوم الخامس عشر من كانون الثاني 1948حينما كان صالح جبر رئيساً للوزراء، وهي المعاهدة التي عدت بديلة من معاهدة 1930 التي ينتهي أمدها في عام 1957، وعلى الرغم من ان حكومة صالح جبر حاولت إشعار الساسة والشعب بأن المعاهدة تحقق استقلال العراق الناجز المقيد بمعاهدة 1930، فإن المعاهدة واجهت رفضاً شعبياً واسع النطاق امتد إلى مجلس الوزراء نفسه.                                                                         
وقد أفضى الأمر إلى وثبة كانون 1948. بيد ان البريطانيين واصلو السعي إلى عقد ما يحل محلها فكان الحلف التركي- الباكستاني، والحلف التركي- العراقي واتفاقية التعاون بين العراق وبريطانيا، وقد بذلت المساعي لضم العراق إلى الحلف التركي الباكستاني التي واجهت رفضاًَ شعبياً عراقياً.                                                                        
وفي هذا الوقت بدأت الولايات المتحدة تفرض وجودها في العراق من خلال اتفاقية الأمن المتبادل بينها وبين حكومة الدكتور محمد فاضل الجمالي في العراق عام 1954 التي تضمنت تجهيز العراق بالسلاح للمحافظة على الأمن الداخلي والدفاع المشروع عن النفس.                                                   
وعدت الأحزاب السياسية هذا الاتفاق انحيازاً إلى الغرب ضد الشرق واتخاذ العراق قاعدة للاعتداء على الاتحاد السوفيتي.                                                 

ميثاق بغداد                                                                   
وفي اليومين 21 و22 من تشرين الثاني 1955 اجتمع في بغداد رؤساء وزراء بريطانيا وتركيا وباكستان وإيران والعراق لعقد أول اجتماع لميثاق بغداد برئاسة نوري السعيد رئيس وزراء العراق، وقد مثل الولايات المتحدة التي قبلت الاشتراك في إجراءات المجلس، سفيرها في بغداد، ومثلها في اللجنة العسكرية مندوب عن جيش الولايات المتحدة، ومراقب يحضر اجتماعات اللجنة الاقتصادية.                                                                                   
وقد أكدت الحكومة العراقية ان مسؤوليات العراق بموجب الميثاق تتماشى والتزاماته بموجب معاهدة الضمان الجماعي والتعاون الاقتصادي الموقعة بين دول الجامعة العربية. وقد سجلت الحكومة العراقية ميثاق بغداد، ووثائق انضمام الدول الأخرى لدى الأمم المتحدة.                                                         
أما على الصعيد الدولي فقد شارك العراق في تأسيس الأمم المتحدة سنة 1945 وجامعة الدول العربية سنة 1945 وحركة عدم الانحياز سنة 1955(مؤتمر باندونغ ).                                                                    

النفط العراقي                                                                    
اتجهت إيران على عهد د. مصدق نحو تأميم النفط بتأييد من مجلس الشيوخ الإيراني في 30أذار 1956وبتأييد مجلس النواب. وقد قوبل هذا القرار بحماس وترحاب من شعب العراق وقواه السياسية والاجتماعية، وتقدم عشرون نائباً في مجلس النواب العراقي بسن لائحة قانونية لتأميم نفط العراق والتخلص من                                    الهيمنة البريطانية على موارد العراق النفطية .
وفي الوقت الذي سعت فيه الحكومة مع رئاسة مجلس النواب إلى التسويف في عقد الجلسة والمذاكرة في هذا المطلب، فإنها واصلت مفاوضاتها بلا انقطاع مع ممثلي شركات النفط لإتمام المفاوضات التي بدأها نوري السعيد أيام «الوزارة السويدية الثالثة » وشكلت العامل الأول لعودته إلى الحكم بمد استقالة السويدي.                                                      
إن مطالبة النواب بالتأميم وظروف التأميم في إيران ساعدت الحكومة على الوصول إلى نتيجة سريعة في مفاوضات النفط على أساس المناصفة في الأرباح الذي أقرته مسبقاً شركات النفط العالمية كافة.                                 
  
جبهة الاتحاد الوطني                                                  
أدى العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وموقف الحكومة العراقية السلبي إزاءه إلى رد فعل شعبي عارم فكان هذا إيذاناً بالبدء بتشكيل جبهة الاتحاد الوطني بين الأحزاب الوطنية والقومية الأساسية في العراق حينذاك وفي مقدمتها حزب البعث العربي الاشتراكي. وركزت الجبهة أهدافها في النقاط الخمس الآتية:                                                                                       

1-  تنحية نوري السعيد، وحل المجلس النيابي.                                      
2- الخروج من حلف بغداد وتوحيد سياسة العراق مع سياسة البلاد العربية المتحررة.                                                                               
3- مقاومة التدخل الاستعماري بمختلف أشكاله ومصادره، وانتهاج سياسة عربية مستقلة أساسها الحياد الايجابي.                                            
4- إطلاق الحريات الديمقراطية الدستورية.                                         
5- إلغاء الإدارة العرفية، وإطلاق سراج السجناء والمعتقلين والموقوفين السياسيين، وإعادة المدرسين والموظفين والمستخدمين والطلاب المفصولين لأسباب سياسية.                                                        
وقد تألفت اللجنة الوطنية العليا لجبهة الاتحاد الوطني في شباط 1957واصدرت بيانها الأول في التاسع من آذار 1957 فصلت فيه النقاط الخمس أنفة الذكر وثبتت منهجاً خاصاً في التنظيم الحزبي، وعززت اتصالاتها بالضباط الأحرار وثبتت هذه اللجنة »ميثاق الاتحاد الوطني» وكان الاتصال بين اللجنتين يتم عن طريق وسطاء معتمدين، واعتمدت الجهات المختلفة التنظيم والتدريب. حتى فجرت ثورة الرابع عشر من تموز 1958.                                                                        

ثورة 14 تموز 1958                                                           
ظل النظام الملكي في العراق يقوم على أركان ثلاثة هي السيطرة البريطانية والبرجوازية الكبيرة، والإقطاع. وقد أثار هذا عضلات سياسية واقتصادية واجتماعية فشلت كل محاولات الوزارات العراقية في إيجاد حلول لها مما أعاق تحقيق التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبلاد.                                                                                 
ومنذ أوائل الأربعينيات بدأت تتبلور حركة مضادة للنظام الملكي وسياساته تمثلت بحركة الأحزاب السياسية ونشاطها داخل النقابات والجمعيات، فضلاً عن حركة تنظيمات الضباط الأحرار. وقد أثرت بعض الأحداث تأثيراً فاعلاً في تبلور هذه الاتجاهات وأبرزها:                                                          
1- حركة 1941التحررية.                                                              
2-حرب فلسطين عام 1948.                                                           
3- نجاح ثورة يوليو في مصر عام 1952 والعدوان الثلاثي عليها عام 1956.                                                                                        
لقد وجد الجيش العراقي نفسه الأكثر تنظيماً وحزماً وضبطاً، والأكثر وعياً في فهم وإدراك المأزق السياسي الذي عاشه العراق مما وفر لضباطه حظاً أكبر في الاستعداد للتغيير السياسي متفاعلاً في حركته مع الحركة الوطنية، ولذا بدأ الضباط الشباب بتشكيل خلايا وتنظيمات سرية.
لقد اعتمد الضباط الأحرار السرية التامة، واستخدموا الرموز في الاتصالات واخضعوا ساعة الصفر في تنفيذ الثورة لظروف حركة الوحدات العسكرية المارة ببغداد و غير ذلك من الضوابط التي لم يكن ممكناً تدوينها في ميثاق مكتوب للثورة مما جعل إعلانها مفاجئاً للجميع، فضلاً عن ان غياب الميثاق المكتوب والمبادئ الأساسية المتفق عليها أفضى إلى خلافات عديدة بين أعضاء اللجنة العليا للضباط الأحرار تركت تأثيرها في استمرار الثورة منذ اندلاعها في اليوم الأول حتى 8شباط 1993.                                                                               

أهداف ومبادئ الثورة

لم تكن هناك وثائق مكتوبة عن التنظيم، إلا ان هناك قواسم مشتركة لتنظيم الضباط الأحرار والأحزاب والقوى الوطنية، صنفت كالآتي:                       

1- الأهداف والمبادئ الوطنية: وتتمحور في إزالة النظام الملكي وقيام النظام الجمهوري والقضاء على الإقطاع وتشريع قانون الإصلاح الزراعي وتحقيق إصلاحات جذرية في جميع المجالات وإزالة التخلف، وتحرير اقتصاد العراق من الارتباط بالمتروبول الاستعماري، وإعلان تأليف مجلس لقيادة الثورة، وتأليف حكومة مدنية من الأحزاب السياسية المؤتلفة في جبهة الاتحاد الوطني، والسيطرة على ثروات البلاد الوطنية بما فيها النفط، وتحقيق الوحدة الوطنية انطلاقاً من ان العراق ملك للعرب والأكراد والأقليات المتآخية، وتحقيق العدالة الاجتماعية.

2- الأهداف والمبادئ القومية: وتتركز في الاتفاق على أولوية الوحدة العربية والتضامن مع الجمهورية العربية المتحدة، والخروج من الاتحاد الهاشمي والإسهام مع الدول العربية الأخرى في تحرير فلسطين.

3- الأهداف والمبادئ الدولية:وتتركز في إتباع سياسة عدم الانحياز والخروج من سياسة الأحلاف وتحديد العلاقة مع دول العالم كافه على أساس المصلحة الوطنية والقومية.                                              

إعلان الثورة:                                                                   

سبقت إعلان الثورة في 14 تموز 1958 محاولات عديدة بدأت في تشرين الثاني 1956واستمرت حتى إعلان الثورة، وعكس ذلك عدة اعتبارات يمكن إجمالها في اعتبارين أساسيين :                                                           
1- الاعتبار الأمني والخوف من انكشاف أمر الثورة في ظروف غير ملائمة تضمنت أجراه التنقلات بين الوحدات العسكرية.                                 
2- محاولات التفرد بالثورة الناجمة عن المنافسة الفردية بين أعضاء اللجنة العليا.                                                                                         
وعلى الرغم من محاولات اللجنة العليا لتبني خطة واحدة للقيام بالثورة فأن الزعيم الركن عبد الكريم قاسم و العقيد الركن عبد السلام عارف والعقيد الركن عبد اللطيف الدراجي سعوا إلى عرقلة اجتماعات اللجنة العليا وإثارة الخلافات بين أعضائها والتخطيط على انفراد للقيام بالثورة، وهكذا حصل عندما صدرت الأوامر إلى اللواء العشرين بالتحرك من جلولاء إلى الأردن مروراً ببغداد، وكان في إمرة اللواء عدد كبير من كبار الضباط الأحرار ومنهم عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وعبد اللطيف الدراجي الذين اعدوا خطة متكاملة للاستدارة نحو بغداد بدلاً من المضي إلى الأردن عبر الفلوجة، والسيطرة على معسكر الرشيد والهجوم على قصر الرحاب وقتل العائلة المالكة ونوري السعيد، واحتلال الإذاعة.                                                                             
ومن الجدير الإشارة إلى ان حزب البعث  العربي الاشتراكي أرسل صباح يوم 14تموز 1958سيارة محملة بالعتاد والأسلحة الخفيفة إلى القوات عند مشارف بغداد ووزعت عليها لتعزيز قوتها. وكان العقيد احمد حسن البكر احد الضباط الأحرار في اللواء الأول، ومقره المسيب، الذين سيطروا على اللواء صباح يوم الثورة وشلوا مبادرته لمعالجة الأحداث في بغداد كما خطط له.                                                                  

الموقف العربي والدولي                                               
اتخذت الجمهورية العربية المتحدة بقيادة عبد الناصر موقفاً قومياً قوياً ومؤيداً لثورة العراق بوصفها حلقة في مسلسل التحرر من الهيمنة الأجنبية خصوصاً ان دخول العراق حلف بغداد عد تهديداً لحركة التحرر العربية وقيادتها المتمثلة بالجمهورية العربية المتحدة. وكان الرئيس جمال عبد الناصر آنذاك في زيارة ليوغسلافيا فقطع زيارتا وتوجه إلى موسكو. وحملها على توجيه تحذير للدول الغربية من مغبة التدخل في شؤون العراق. وقد أعلنت الجمهورية العربية المتحدة ان أي عدوان على المراق يعد عدواناً عليها.                                                                     
وكان هذا الموقف رداً على الإنزال الأميركي في لبنان والبريطاني في الأردن والتحشدات العسكرية التركية على حدود العراق الشمالية واستعداد إيران إرسال متسللين لإجهاض الثورة.                                                                   
وقد قدمت الجمهورية العربية المتحدة مساعدات عسكرية عاجلة للعراق لمساعدته على مقاومة أي عدوان خارجي في ذات الوقت الذي عقد فيه اجتماع في دمشق بين وفد عراقي برئاسة العقيد الركن عبد السلام عارف والرئيس عبد الناصر تمخض عنه توقيع اتفاق للتعاون بين الجمهوريتين، وجراء ذلك نصحت الولايات المتحدة أصدقاءها وحلفاءها بعدم التدخل في شؤون العراق الداخلية.                                                             
واتخذ في المراق عدد من الإجراءات والقرارات الاقتصادية والاجتماعية أبرزها ما يأتي:                                                                             

1- الإصلاح الزراعي بهدف تفتيت الملكيات الزراعية الإقطاعية وتحرير الريف من سيطرة الإقطاع.                                    
2- انسحاب العراق من المنطقة الإسترلينية على أساس ان التحرر السياسي لا يكتمل دون إحراز التحرر الاقتصادي من التبعية الأجنبية وبذلك انسحب العراق من مظلة الجنيه البريطاني التي كانت بريطانيا تسعى من خلالها إلى تنظيم تجارتها على وفق مصالحها الإستراتيجية.                                                                  
3- السياسة النفطية : اعتمدت حكومة الثورة أسلوباً تدريجياً في تحقيق المصالح الوطنية في مجال النفط، فأنشأت إدارة وطنية لمصلحة المصافي الحكومية والفت الإدارة الأجنبية، وطردت الخبراء الأجانب، وصفت شركة نفط خانقين وقد تسلمت مصفى الوند في نيسان 1959، وتسلمت هيئة النفط الوطنية شؤون التوزيع لشركة نفط خانقين، واعتمدت العديد من الإجراءات التي تحقق للحكومة السيطرة على الثروة النفطية.                                                



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق