الأحد، 20 ديسمبر 2015

كتاب العراق في ثلاثون عاما من مسيرة الخير والتقدم ...صدر عن وزارة الثقافة والاعلام العراقية عام 1998 ...الجزء السادس




اللجنة التحضيرية للذكرى التاسعة لاستشهاد
 الرئيس الخالد صدام حسين 
كتاب 
العراق في ثلاثون عاما 
من مسيرة الخير والتقدم
قدم هدية من قبل لجنة لبنان 

الجزء السادس







العراق
ثلاثون عاماً من مسيرة الخير والتقدم
---------------------------
الفصل السابع
العراق والتحديات القومية

منذ بداية ثورة 17-30 تموز المجيدة عام 1968 لم يفارق السلوك السياسي الخارجي العراقي روح الأمة القومية بل دفع عبر خطوات محسوبة وبادراك قيادي متميز تلك الروح إلى مراسيها المطلوبة وزودها بممكنات نهوض لإثبات وجودها... فالأمة العربية بكل مقوماتها وقواها الوطنية والقومية ظلت محافظة على قدرتها في خلق لحظات انتعاش معنوي تعيد إلى الروح حيويتها ومناعتها،... والى الجماهير العربية يقظتها وبصيرتها بما يجعلها أكثر قدرة على فرز المواقف وتحديد ما هو مطلوب منها توطئة للعمل باتجاه تطويق المد المضاد لها والإمساك بالمبادرة لبناء موقف جديد تكون فيه الغلبة لتلك الجماهير على طريق تحقيق المهام المركزية التي ناضلت وتناضل من أجلها. ومن اجل ذلك بدا من الضروري ان يكون هناك :-                                                 

1- نموذج ثوري ونضالي محقق الهدف واقعي الفعل يعين تلك الجماهير على تلمس الطريق الذي تمتلك فيه قيادة ذلك النموذج رؤى مبصرة ووسائل مجربة للمواجهة الدائمة. وهي ميزة لم يحصل عليها قطر عربي منذ بداية السبعينات حتى الآن غير العراق الذي لم تبدع قيادته التاريخية في إخراج المطالب والأهداف العربية إلى ارض الواقع فحسب، وتلك مهمة تتطلب من العراق قيادة وشعباً تضحيات جساماً شهدت لها القادسية المجيدة وأم المعارك الخالدة، بل عمدت إلى توظيف كل المقومات والإمكانيات الوطنية لتحقيقها. فالعراق بكل عناوينه لم يبخل بالجهد أو بالإمكانية من اجل رفعة الأمة لإيمانه العميق بان وجوده امتداد لوجود الأمة وعمقها وسندها الأصيل. ولم يكتف العراق بإعلان موقفه فحسب، بل عمد أيضاً إلى ردفه بمسعى منهجي يقوم على أساس:                                                     
أ- العمل من اجل بناء نموذج فكري موحد يصلح أساساً لفكر إستراتيجي عربي جديد ينبع من نموذج العراق في الصمود والثبات والمواجهة نموذجاً للفعل والتخطيط البعيد المدى، يكون هدفه معالجة المشكلات و مواجهة التحديات التي تعانيها الأمة.                                         
ب - مراجعة الذات العربية لتفعيل الشعور القومي عند أبناء الأمة العربية من خلال تبني شعارات أم المعارك الخالدة التي كانت وما تزال أفعالاً يتحتم تفعيلها لمصلحة بناء المكانة التي تستحقها امة العرب.                                                                           
جـ - ضرورة العمل لوضع حد لبعثرة الطاقات والقابليات وإخضاعها لقواعد متفق عليها على وفق شروط واجبة التحقق دون احتساب مقدار التضحية المطلوبة. ولا يمكن النجاح في هذا المسعى دون وضع برامج محققة لهدف التعبئة القومية سواء على صعيد الموقف الرسمي أم الشعبي.                                                                       
د- ضرورة الاتفاق - سواء على صعيد الإدراك أم الفعل - على بناء أسلوب تعامل موحد مع التحديات التي يتعرض لها العرب سواء المزمنة منها أم تلك المتولدة من المتغيرات الدولية.. ولن يكون ذلك ممكناً دون الاتفاق على مدرك أمني موحد يعيد إلى الفعل القومي هيبته ومصداقيته.                                                              
هـ - ضرورة بلورة فروض إدراك واقعي للحال العربي وما يجب ان يكون عليه وعدم الاكتفاء بالممكنات الذهنية، وضرورة ان يقام تحالف عريض مع الجماهير العربية صاحبة المصلحة الحقيقية في تجاوز الأزمة.                                                                  
إن العراق يبقى هو الأساس في تفعيل جذوة النهوض العربي القومي عبر ما يطرحه من أهداف ومطالب، وما درج عليه من أفعال ني بناء نموذج للتفكير والمناقشة والأداء الخاص بالعرب الذين ما لبثوا يعانون هواناً كبيراً اثر كثيراً في قدرتهم على حسم موقف موحد حيال قضاياهم القومية التي تركوها ليلهثوا وراء نموذج يفرض من الخارج. وهنا بدت القيادة العراقية وفية لموقفها الداعي إلى ضرورة امتلاك العرب الإرادة الصادقة الموحدة المستندة إلى روح المبادئ القومية والحرص على تبني نموذج مسير لمعالجة القضايا القومية التي بدت مع الأسف منافذ معدة ومشرعة للتأثير الخارجي المتعدد العناوين، الذي عرف كيف ينقض على الأمة لا من نقاط ضعفها كما هو الحال في غابر العقود، بل من نقاط قوتها هذه المرة.         

2- امتلاك وحدة في الرؤية القومية وجرأة في الموقف وفاعلية في النضال تتجاوز في سلوكها القياسات التقليدية التي ثبت عجزها وأصبحت منفذاً للقوى المعادية لكي تفرض من خلالها مخططاتها التي لم تستهدف النيل من وحدة الموقف القومي، بل من مكامن القوة العربية وأبرزها وحدة الموقف الجماهيري.                              
3- تكثيف الجهود العربية من اجل مواصلة عملية الخلق القومي الواعد للإنسان وللأمة، لتجاوز ما تعطل من مقومات واستنهاض ما كمن من طاقات. وهنا حقق العراق في أم المعارك الخالدة جهداً كبيراً شهدت له ظروف المواجهة مع الأعداء وسنوات الحصار الظالم، نموذجاً في تفجير الطاقات، وعوناً على تحقيق الانجاز في الحلقات الحيوية التي تثير الهمة والوعي لدى أبناء الأمة بوصفهم يؤلفون وحدة واحدة لها دورها في التاريخ الإنساني. وهكذا أسس العراق قيادة وشعباً، معياراً أصيلا لقياس حيوية الأمة يكمن في تحقيق الوحدة التي يمثل الاقتراب منها معياراً للفعل والوجود القومي وعنصر تقويم محفز على عودة مسار العمل العربي إلى حالته الطبيعية التي لا تحقق إلا عودة الهوية القومية إلى الفعل العربي.     

أولاً: الوحدة العربية... الدعوة المتجددة في النضال من أجلها
المتابع الفاحص لتاريخ الأمة الضارب في القدم يجد ان الشعب العربي، ومع كثرة التحديات التي تعرض لها، كان دوماً يتغلب على الإحباط واليأس اللذين عمدت إلى زرعهما الأوساط الخارجية والرجعية والإقليمية العربية. وكان هذا الشعب يحمل بتحفزه قوة لا تدانيها قوة في النهوض والتماسك بعد كل كبوة يتعرض لها، فيقترب دوماً من التضامن المحقق للعرب شرط الوحدة في الموقف، وإن لم يتحقق لها شرط الوحدة في الحلم التاريخي. وهكذا كانت الوحدة العربية دافعاً، وان كانت تحمل في طياتها مقومات عاطفية، إلى استنهاض الهمم وإعلان الجهاد المقدس لتقرير المصير والسيادة الكاملة. وعلى الرغم من ان هذا الاستنهاض وسيلة إلى تحقيق الوحدة، فإن شعار الوحدة نفسه بقي مدخلاً أساسياً لا غنى عنه لإتمام هذا الاستنهاض، ودحر الممارسات والسياسات الخاطئة، وتجاوز مضامين النزعة القطرية، وتقوية أساليب التوحيد القومي الديمقراطي أو التدريجي القائم على قاعدة المصالحة الوطنية الداخلية من جهة والتوحيد السلمي بين النظم العربية التي أصبحت في ظل ما تتعرض له من تحديات أحوج ما تكون إلى الإرادة الذاتية التي تحمل معها القدرة على وقف تبديد طاقات الأمة، ووقف مشاريع الأعداء. وهكذا بدا مصطلح الوحدة والعمل من اجله صنوين لا يفترقان في الفعل والزمن أيضاً. وتبعاً لهذا الاستنتاج نقول إن ارتكاز العرب على الوحدة في تبرير وجودهم الأرقى لم يكن محض إطار أيديولوجي بل هو عنوان لحركة الوعي التاريخي العربي، الذي زاد الوجود المادي شرعية ومركزية، مما نستطيع ان نفسر معه ضخامة التحدي الخارجي الداعي إلى استلاب حركة الوعي التاريخي العربي. ولأجل المحافظة على جذوة ذلك الوعي ويقظته بدأت حركات قومية كثيرة تدلو بدلوها من اجل استثمار تلك الجذوة في إقامة وحدة عربية شاملة، وإن بدأت بشكل إرهاصات فكرية واعية تهدف إلى العودة بالوعي إلى حقيقته وتفعيله لا على أساس وحدة النوع البشري بل على أساس الوجود المعنوي أيضاً...                                                   

ولم تنس ثورة 17-30 تموز 1968 مسن وليتها المبدئية والأخلاقية والسياسية في تهذيب الدعوة إلى الوحدة العربية بوصفها مطلباً أزلياً لا يمكن التنازل عنه أو تحييد مسوغات إعادة التذكير به. وتبعاً لذلك الإحساس وجد العراق أن من واجبه حسم الجدل الدائر في الوحدة العربية... وحدة من؟ وممن؟  أيمكن إخراج بعض الأقطار العربية من نطاق الوحدة ولو مؤقتاً ؟ ثم أيمكن السلوك إزاءها كما لو كانت غير معنية بالوحدة العربية أو مهمشة أو مضادة؟ وإذا كان لابد من مراعاة الاعتبارات الخاصة لوزن بعض الأقطار العربية في عملية الوحدة العربية، أيمكن تصور وحدة عربية تقوم بمعزل عن العراق أو مصر أو سوريا؟ وبدون من يمكن ان تقوم الوحدة العربية مؤقتاً في الأقل؟.      

وعلى الرغم من تباين الإجابة عن بعض الأسئلة،.. وحسم بعضها فأن الهدف من وراء ذلك كله يبقى دائماً متمثلاً بفهم الصيرورة التي يتم بها تجاوز ذلك كله حيال الوحدة العربية بغض النظر عن الفترات والمراحل التي يتطلبها ذلك، مثلما يبقى الركون إلى تفسير فشل تجارب الوحدة العربية حتى الآن مرهوناً بتجميع العوامل الذاتية والموضوعية الداخلية والخارجية التي تحول دون الوحدة العربية وتعيق تحقيقها. ومع ذلك يبقى التصور الوحدوي هو التصور الممكن لحل مشكلات الوطن العربي، وهذا التصور يستفيد من كل أخطاء الفكر والممارسة الوحدوية في الماضي والحاضر، كما يستفيد من متابعة وتحليل المتغيرات العالمية الجديدة. وبعض متطلبات هذا التصور بناء الارتباط العضوي بالتصور المستقبلي لمشروع شامل للوطن العربي لابد ان يكون ذا طبيعة عربية وانتساب عربي حتى لو تكاتفت واختفت وراءه جهود وضغوط دولية هائلة.      

والعراق يرى في الوحدة قمة المعاني السامية التي تضمها وحدة المصير الذي يحمل دلالات عميقة لها تأثيرها الايجابي سراء في التعبير عن قدرات الأمة أم في مجرى التطور الإنساني على مستوى العالم. ولم يكن هذا الرأي مطلقا في مظاهره، فأهمية الوحدة العربية للعرب كما يقول الرئيس القائد في خطابه في 17/7/1997«لا يلغي بالضرورة خصوصية أطرافها أو أجزائها وإنما ينشئ فيها مركز استناد، وسيادة وأمن واستقلال... ومرجعية يضمن لها المصلحة العليا ويحقق لها القدرة والازدهار»، لذا فأن الوحدة واستمرار الدعوة إليها هما "مسعى وصلة لتجدد منابع الثروة ومرتكزاتها وقدراتها، وينابيعها.. وتفنيها وتوسعها على قاعدة الفعل الجمعي المنسجم" وهذا يعني ان دعوة العراق إلى الوحدة لا تعني "حرمان أصحاب المعنى الخاص والعنوان في بلدهم من أي مرتكز قدرة ومشروعية، وإنما تعطي مرتكز قدراتهم ومشروعيتهم معناه العظيم والاشمل والراسخ المضمون، وان القصد منها ليس الاستحواذ على ثروات الآخرين من أي كان».                             

كما رأى العراق وما يزال في الوحدة الحل الأمثل لكل مشكلات الأمة، فالنزف د المستمر،في الدماء، والفرص والزمن والأموال لن ينتهي أو يضعف إلا عندما يجد العرب صيغ علاقة وحدوية جادة وصميمية بين أطرافها بفض النظر عن الشكل الدستوري الذي تتخذه». ولهذا الأمر أثاره الكبيرة في مفهوم العدالة والاشتراكية. فالوحدة ستكون داعية إلى تسويغ «الحاجة إلى تعاون المحرومين، نعاونهم على أنفسهم ليعمل المتخلف عن معاني ما ينبغي لاستحضار ما هو أساس لعمل منتج ونعاون المتخمين أو أولئك القادرين على مساعدة أشقائهم وإخوانهم». من كل ذلك ستكون الوحدة «طريقنا ودرعنا وخيمتنا.. والضمانة الحقيقية لحاضرنا ومستقبلنا مثلما كانت منارة تاريخنا التليد». وهكذا ضمن العراق المنطق الأصيل لفهم الوحدة بحس تاريخي وإدراك واقعي معاً.                             

إن رؤية العراق للوحدة، ليست رؤية فكرية نظرية فحسب، بل جسدها في برامج ومشاريع كفاحية، وطرحها على الأشقاء العرب خلال الثلاثين سنة الماضية. فقد طرح أول مشروع للعمل الوحدوي في قمة طرابلس عام 1969، ومروراً بمشروع الوحدة مع سوريا ومصر، والمشروع الكفاحي في مجلس الدفاع العربي المشترك وكذلك ميثاق العمل الوحدوي مع سوريا 1978، وأخيراً مجلس التعاون العربي 1989. ولم يشترط العراق شكلاً محدداً للوحدة، أو ممارسات خاصة من اجلها، بل دعا إلى تحقيق قدر من التلاقي والتضامن بين الأقطار العربية، للارتفاع درجة فوق خط التردي الذي تعيشه الأمة العربية. إضافة إلى دعواته للعمل العربي الموحد في المجال الاقتصادي، وما قدمه من دعم مالي على هذا الطريق.           

ثانياً: القضية الفلسطينية.. والنضال من أجلها                       
ليس جديداً القول إن القضية الفلسطينية احتلت وما تزال موقعاً مركزياً في سياسة العراق الخارجية بعد ثورة 17-30 تموز المجيدة، لأعلى الصعيد القومي حسب، بل على الصعيد الدولي أيضاً.فقد اعتمدت حكومة الثورة خطاً في سياستها الخارجية على الصعيد العربي يقوم على دعم نضال الشعب الفلسطيني في كل المحافل العربية والدولية والتصدي بشجاعة وإصرار وثبات لكل المحاولات الرامية لتصفية القضية الفلسطينية وفرض الحلول التي لا تقر حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية المشروعة في العودة إلى أرضه الوطنية وتقرير مصيره وبناء دولته الوطنية المستقلة.                                         

وقد شارك العراق في كل الجهود العربية السياسية والعسكرية والاقتصادية الرامية إلى ضرب مطامع الكيان الصهيوني والحد من نزعته التوسعية العدوانية وتحرير الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة. وعلى هذا الطريق شارك العراق مشاركة فعالة في تعزيز الجبهة الشرقية ضد العدو الصهيوني وأرسل قوات ضخمة إلى الأردن، كما شارك مشاركة فعالة في حرب تشرين 1973بقوة مدرعة ضخمة أسهمت أسهاماً كبيراً في حماية دمشق من السقوط بيد الاحتلال الصهيوني. كما أسهم العراق في الدفاع عن جنوب لبنان عام 1978.                             
كما دعا العراق لعقد مؤتمر القه العربية الاستثنائي عام 1978 لوضع خطة فعالة لإسناد الصمود الفلسطيني والعربي بوجه الاحتلال والتوسع الصهيوني والحلول الاستسلامية.                                              

وانطلاقاً من موقف العراق القومي الأصيل كان لحكومة الثورة مساهمتها الجدية العميقة في دعم قوى الثورة الفلسطينية المسلحة. فإلى جانب دعمها لجبهة التحرير العربية التي ولدت في أواخر الستينيات لإضفاء الطابع القومي على معركة تحرير فلسطين، احتضن العراق جميع فصائل الثورة الفلسطينية وقدم لها الدعم السياسي والمادي لتمكينها من أداء مهامها الكفاحية على طريق تحرير فلسطين وبناء دولتها الوطنية المستقلة. ونتيجة لهذه المواقف والسياسة القومية التي اتبعتها حكومة ثورة السابع عشر- الثلاثين من تموز المجيدة، لم تكن الصهيونية العالمية وكيانها المسخ بعيدين عن أي من الصفحات التي أريد بها إيذاء العراق. ولم تهادن يوماً ما، في عدائها له وبخاصة بعد ان تصاعدت حدة.لتأثير العراقي في مجرى الصراع مع الكيان الصهيوني بعد تعمق مسيرة ثورة 17- 30 تموز المجيدة 1968، تلك الثورة التي أعطت العراق كل مظاهر القوة والقدرة حتى استطاعت الوقوف في وجا الكيان الصهيوني وإستراتيجيته في المنطقة الداعية إلى التفتيت بوصفه أساساً مقصوداً لفرض الهيمنة الصهيونية على العرب.                                      
وقد ازدادت حدة هذا العداء بعد تنامي القدرات العراقية في أعقاب الانتصار العراقي الحاسم على إيران في أب 1988على الرغم من كل مظاهر الجهد السابق المعوق لهذا التنامي الذي أخذت مظاهره تؤثر وتفعل فعلها ضد الكيان الصهيوني ونظريته التوسعية.                            
وقد أكدت الأحداث التي عجت بها السنين التي أعقبت العدوان الثلاثيني على العراق صحة التوقع والتحسب العراقي، فقد كشفت إحدى الوثائق الصهيونية التي نشرت في 19/6/1990 ابعاد الدور الصهيوني في حشد العدوان ضد العراق. وهذه الوثيقة تمثل اجتماع اللجنة الأميركية - اليهودية للشؤون العامة المعروفة باسم «ايباك» في مؤتمرها المنعقد في 10-12/6/1990 إذ جاء فيها:                                                

(العراق عدو «إسرائيل» الأول.. لذا طلب نيوت كنكرج  زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب الأمريكي تحرير رسائل إلى أعضاء الكونغرس الآخرين لتحذيرهم من خطر صدام حسين على "إسرائيل" ووجودها).                                                                       
وقد كشفت الوثائق السرية ان اسحق شامير، رئيس وزراء "الكيان الصهيوني" آنذاك كان على علم بساعة الصفر لبدء العدوان على العراق. وقد اصدر أوامره إلى الطيران الصهيوني للتأهب للمشاركة في الفارات الجوية التي تشن على العراق.                                                 
ونتيجة لإدراك القيادة العراقية لدور الكيان الصهيوني التحريضي الخبيث الذي وصل حد المشاركة غير المباشرة في العدوان على العراق ووفاء من تلك القيادة لتحذيرها السابق وعقاباً على جرائمه المستمرة تجاه الشعب الفلسطيني اتخذت القيادة العراقية قرارها قبل بدء العدوان بضرب الكيان الصهيوني في حالة شن العدوان، ودكت فعلاً القوات الصاروخية العراقية أوكار الشر في تل ابيب وديمونا وباقي مدن الكيان الصهيوني بـ 39صاروخ ارض - ارض لتجعل أول مرة نظرية الأمن الصهيوني المطلق خرافة لا يمكن تصديقها. وقد كان لهذا الفعل أثره الكبير في داخل النفس العربية التي بدأت أكثر تحفزاً للنضال والقتال ضد الكيان الصهيوني وإطماعه. وما كان من الدوائر العربية إلا السعي إلى تدجين تلك النفس وترويضها ولم تجد لذلك سبيلاً غير عقد المؤتمر الدولي في مدريد 1991، وقد أرسى هذا المؤتمر قواعد إجرائية لم تكن لتقاس إلا كمكافأة للكيان الصهيوني على ما أسمته الدوائر الغربية بسياسة ضبط النفس الصهيونية.                                                                 

وقد رفض العراق هذا المؤتمر كآلية لحل مقتضيات الصراع العربي - الصهيوني لأنها قد قامت أساساً على الربط بين حل الصراع وإعادة هيكلة النظام الإقليمي العربي لمصلحة بناء إقليمي أوسع لا على أساس مبادرة الربط التي أطلقها العراق في 12 أب 1990 وتناقش قضية الانسحاب الصهيوني من الأراضي العربية المحتلة بوصفه إجراء لابد منه لحل القضية الفلسطينية بدل الدخول في متاهات التنازل كما أفرزتها تجربة مؤتمر مدريد فيما بعد. وقد رفض العراق هذا المؤتمر تبعاً لقناعته بأن المتغيرات التي لحقت بالقضية الفلسطينية توجب الاستثمار لا التنازل خصوصاً بعد ان أفردت هذه المتغيرات بشقيها القيمي والبنيوي ضرورة :
- تحديد ماهية الصراع وحدوده. فالظرف الحق للعدوان الثلاثيني على العراق اوجب ضرورة تحديد قلب الصراع وفاعليته بسبب اهتزاز معيار قياس حجم الفاعل واختصاصه فضلاً عن التغير الحاصل في معدلات القوة وما سببه من سيادة مفهوم الإرغام الإسرائيلي بدلاً من الردع ولاسيما بعد محاولة تحديد دور العراق في الصراع بسبب ما دمر من قواته أو ما تقرر تجريده منها.                                                 

- الحذر من اتجاهات الواقعية السياسية وما صاحبها من ضرورة عد الشرعية الدولية القرارين 242و 338والركون إليهما أساساً في الحل الذي يقوم على وفق مبادلة الأرض مقابل السلام.                                          
- الحذر من سيادة مجالات العمل السياسي القطري الضيق تجاوزاً للنظرة السياسية الشاملة التي تدعو إلى الانسحاب الشامل وغير المشروط من الأراضي المحتلة.                                                          
وبناه على ذلك رفض العراق المؤتمر الذي لم يخرج عن كونه فعلاً سوغت أمريكا كل فروضه بعد العدوان الثلاثيني على العراق.. ذلك المؤتمر الذي يقوم على أساس "الخطأ والظلم لا على أساس الحق والعدل". وقد اعتمد العراق في رفضه على قناعته:                         

أ- بديمومة التهديد الإسرائيلي عربياً وفلسطينياً المأخوذ بضرورة ترسيخ الاحتكار الإسرائيلي لمظاهر التفوق.                          
ب - بأن الفلسطينيين هم الضحايا أساساً بعملية التسوية التي لا يتمخض عنها سوى استمرار معاناتهم القاسية.                                    
جـ _ بأن فترة الصراع الطويلة ستظهر أزمات هيكلية ودورية، تظهرها قنوات تاريخية وسياسية واضعة صناع القرار في تناقض بين ما يتصورونه مصلحة ومبدأ.                                     
د- بأن المؤتمر الدولي وإن حقق نجاحاً ملموساً فجل دعوته لا يعدو كونه مرحلة تهدئة ناتجة هن إصرار أميركي أكثر مما هو تعبير عن فعل إسرائيلي مقنع بدلالة الجدل الطويل حياله.                                      
إلا ان الحال لم يقف عند هذا الحد إنما بدأت القوى الامبريالية والصهيونية بنسج مؤامرة جديدة تمثلت باتفاق أوسلو بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية الذي سبقته مباحثات ومداولات سرية. وكان الهدف من ورائه تحقيق فصل متعمد للمسار الفلسطيني عن بقية مسارات التسوية الأخرى للانفراد به وبالحقوق الفلسطينية التي بدا التهميش ينتظرها. وقد تبلور الموقف العراقي من هذا الاتفاق في صيغة مرحلتين:                                                                         

الأولى :شهدت رفض العراق اتفاق أوسلو أيلول 1993بكل ما يحمله من مفردات مع الإقرار بحق الشعب الفلسطيني في إقرار خياراته.     
الثانية : تنص على استمرار رفض العراق لاتفاق أوسلو وما الحق به من اتفاقات في القاهرة وواشنطن وطابا، مع الإقرار بحق الشعب الفلسطيني في استثمار ما تحقق منه ودفع الكيان الصهيوني إلى الإيفاء بالالتزامات التي اقرها الاتفاق والبروتوكولات الملحقة به واستخدامها موطئ قدم لتحقيق الغاية الأكبر وهي الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة كاملة بما فيها القدس الموحدة التي أخذت حكومة نتنياهو تصرح مراراً وتكراراً، على فلاف التزامها بموجب اتفاق أوسلو، بأنها عاصمة الكيان الصهيوني ولا تنازل عن ذلك. وقد وصف الرئيس القائد هذا التخلي في خطابه في 17/7/1997بقوله د وكما هي لعبة الصهاينة في تخطيطهم الخاص، أو مع الاميركان، فعندما يعبرون مأزقا ما يتخلون عن وعودهم بأساليب شتى، منها تبديل أصحاب الالتزام الذي استجلب قرار أو موافقة العرب المعنيين، سواء في أميركا أم في الكيان الصهيوني لتصبر حتى الالتزامات الجزئية التي تحقق لهم تخلى من يتخلى عن الكل الأكبر مقابل ذلك شيئاً من الماضي... وعلى ذمة من يسقطون عن كراسيهم وفق اللعبة البرلمانية في الكيان الصهيوني أو تنتهي مدة حكمهم مثلما هو الحال في أميركا.. وهكذا كان، فوجد المعنيون من العرب أنفسهم بعد ان أعطوا كل شيء، بما في ذلك ضرب وسائل وطاقات مشرفة في العراق، وكأنهم يولدون من غير ستر، وفي حيرة لا مخرج منها».                        

وتجاوزاً لكل حلقات الاتصال الجارية بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين وبعض العناوين العربية دعا الرئيس القائد في خطابه في 17/7/1997الى ضرورة «العمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذ» بأقل ما يمكن من الخسائر الاعتبارية والمادية أو في الأقل ان لا ندع الصهاينة يستضعفون العرب والفلسطينيين منهم ولان إنقاذ ما يمكن إنقاذه لا يحصل بالتضامن في هاوية الضعف والتخاذل» طرح الرئيس القائد في ذات الخطاب العديد من النقاط الجوهرية التي حملت معها إشارات معالجة شاملة ترضي الضمير العربي. ومن هذه النقاط :                          

1- إن تنعقد الاجتماعات الرسمية العربية التي تتقرر لبحث هذا الموضوع، وفق طريقة ليس المقصود منها التلويح السياسي الرخيص للآخرين ليحاولوا إرضاء العرب الزعلانين وما ينبغي لها من حلول يتفق عليها.                                                        
2- بغض النظر عن اتفاقنا واختلافنا، كمسؤولين عرب، على خواص وطبيعة وتقييم ياسر عرفات فان السيد عرفات هو الآن المتصدر لقيادة شعبه بوجه عام..والاتفاق على دعمه هو والقيادات مسألة في غاية الأهمية لانجاز خطة العرب والفلسطينيين أنفسهم.                 
3- ان ينتهي الهجوم والتجرير والتنديد بالمواقف العربية المختلفة أو المتباينة حول القضية الفلسطينية على كل صعيد وعنوان عربي ولا بأس من النقد الذاتي كبوابة للتبصير باقتراح البدائل وإجلاء صورة المخفي وغير المرئي من الأمور والتنبيه على كل ما هو خطأ وخطر.                                                                          
4- ان تبقى القرارات التي يتخذها العرب حول هذا الموضوع سرية وإلا يعلن منها إلا ما يتفق على إعلانه.                                   
5- ألا يؤدي ما يتفق عليه إلى ما يلجم الجماهير العربية وتياراتها السياسية والفكرية من ان تقول رأيها وتعبر عن مواقفها، بما في ذلك الدعوة إلى تصعيد المواقف نجاه ا لكب بسانده.                          
ومن دون ذلك تصبح القضية الفلسطينية في مهب اجتهادات ومواقف متباينة لم يستفد منها إلا الصهاينة أنفسهم.                                      

ثالثاً: نظرة العراق إلى أمن الخليج العربي، عروبية الموقف وواقعية الطرح                                                                          
إن منطقة الخليج العربي واحدة من أكثر مناطق العالم تأزماً واضطراباً. ويعود ذلك إلى تكالب الدول الاستعمارية على السيطرة عليها لما تحتله من مكانة إستراتيجية ثابتة سواء من حيث موقعها الجغرافي الذي أعطاها أهمية سوقية عسكرية أو من حيث أهميتها الاقتصادية الموردية لأنها مصدر النفط المتدفق والاحتياطي الأكبر في العالم فضلاً عن كونها سوقا تجارية أو استهلاكية واسعة، وقد تزايدت هذه الأهمية بعد الحرب العالمية الثانية لما تكتنزه المنطقة من ثروة وما تبعها من خلق للغريزة السياسية لدى أصحابها واستخدامها ورقة للمساومة، وما أصاب إستراتيجيات الدول الكبرى من تبدل تمثل بتطويع الجغرافية لانتشارها وضرورة تدفق النفط إليها. كل ذلك جعل منطقة الخليج العربي منطقة جذب وإغراء شديدين توضحا في مستويات مختلفة:                                                  

الأول - في ظل القطبية الثنائية، أصبح الخليج العربي مرتكزاً لسياسة الاحتواء ضد العالم الشيوعي ولتنافس القوى للنفاذ إليه.          
الثاني- مثلت منطقة الخليج العربي الإقليم الذي يخول ويزود الغرب واليابان بالطاقة.                                                         
الثالث ما تؤديه الآن من مهمة أمنية مباشرة وحاسمة في تكوين ميكانيكية الربط الذي برز على نحو مباشر وواضح بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بين الاستقرار الإقليمي والمصالح الدولية فهناك ارتباط وثيق بين امن الخليج والنظام العالمي، إذ تمتلك دول الخليج 65% من نفط العالم وهذه الميزة مكنتها من احتلال موقع خاص في نظام شبكة المصالح الدولية.                                         

وعلى الرغم من تبدل المستويات المشار إليها فإن منطقة الخليج العربي ظلت تحتفظ بأهميتها منطقة جذب للمصالح والمطامع الدولية، بل ان التغيرات الدولية الأخيرة بكثافة تبدلاتها عززت أهمية الخليج العربي لأنه البيئة التي تحمل في نسق تكونها مصالح العالم بعامة ومصالح الولايات المتحدة بخاصة "فهو دائرة القلب للمصالح الحيوية الأميركية ".            

أولاً: ففي ظل تغير هيكلية النظام الدولي، بغياب احد القطبين الرئيسين ومن ثم انفراد واشنطن بالقوة العالمية فان الخليج العربي مثل الإقليم الصالح لإثبات دورها العالمي في ظل آليات "ما سمي بالنظام العالمي الجديد » التي لما تتبلور بعد. وهنا أصرت أميركا على صيانة وتطوير مصلحتها عبر تأمين ذاتها من دواعي الاضطراب، وهي:                                                                        
- الحيلولة دون بروز قوى إقليمية فاعلة عن طريق الاحتواء أو التصدي لها بالعنف.                                                                           
- السعي الحثيث إلى ضبط وتقنين انتشار التكنولوجيا فيه لأنها أصبحت أداة تغيير مؤثرة بيد الدولة المالكة ولا سيما عندما تنجح الدولة في تطويع التكنولوجيا عسكرياً.                                                                
ثانياً- لقد جاء التغيير الذي أصاب طبيعة العلاقات الدولية بمكانة منفردة للولايات المتحدة على حساب اضمحلال دور العالم الثالث وكتلة عدم الانحياز وتبدلت معه طبيعة الصراع الدولي من سياسي إيديولوجي إلى اقتصادي في جوهره، بين دول الشمال والجنوب. ومن أجل الاستفادة من هذا الحال وتثبيته سعت أميركا إلى السيطرة على الخليج لكونه الإقليم الممول للنفط «جوهر التنافس لدى الشمال وعصب حياته الاقتصادية».                                               
ثالثاً - لقد جاءت ظروف انهيار الاتحاد السوفيتي بتوقع مرصود مفاده ظهور أعمدة جديدة في هيكلية «النظام العالمي الجديد» ولاسيما بعد ظهور انحراف في الفاعلية التدميرية العسكرية لمصلحة الفاعلية الاقتصادية. فالطرف المؤثر سيكون ذا اقتصاد متين شبه متكامل وتقنيات عالية فأوربا الموحدة واليابان لديهما فاعلية ولكنهما لا يملكان القوة التدميرية اللازمة. وهنا بدأ الخليج العربي الساحة التي تمثل وتوفر الضاغط على تلك الأعمدة سواء في تثبيت أسس التعامل الدولي كما هو الحال مع العدوان الثلاثيني على العراق وما قدمه التدخل الدولي في الصومال لمصلحة أميركا أو من خلال ما يدره هذا الإقليم من مدد للصناعة والحياة الاقتصادية في تلك البلدان.                                                                          
رابعاً- لقد جاءت التغيرات الدولية الأخيرة ملوحة بضرورة ربط الأجزاء المحيطة بالمركز وجاء في مقدمة هذه الأجزاء الخليج العربي الذي ينبغي ان يكون مستقرأ وأمناً.                              
إن جوهر الإدراك المتحقق مما أشير إليه.يتمحور في معلمين أساسين يحملان معهما تناقضاً محسوباً:                                                    

الأهمية الإستراتجية                                                      
إن الأهمية الإستراتيجية لمنطقة الخليج العربي لم تتبدل بل تطورت لمصلحة انفراد قوة بها، والدليل على ذلك ان تلك الأهمية ما تزال متمحورة في هدفين، أولهما القيمة السوقية للخليج أرضاً وإقليماً لان السيطرة عليه تعني امتلاك المفتاح الجاد في العالم. فالخليج لم يعد منطقة مهمة فحسب بل أصبح قلباً عالمياً خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أهميته النفطية، فهو يحتوي على ثلثي الاحتياطي العالمي والممول الرئيس للعالم الصناعي، فالسيطرة عليه تعني احتواء الدول الصناعية «أوربا واليابان» التي تسعى إلى الابتعاد عن الفلك الأميركي.                        

وقد أضاف انهيار الاتحاد السوفيتي دافعاً جديداً يتمثل بالفراغ الذي ينبغي شغله، لكون الخليج أصبح المنطقة التي يقاس بها حجم الدور وتأثيره بالنسبة إلى أميركا أو الدفاع عنه، وقد انعكس ذلك بوضوح من خلال كثافة وجودها العسكري فيه وبالقرب منه الذي أسس علاقة محسوبة لمصلحتها عن طريق الاتفاقيات الأمنية مع دوله ومسعاها الدائم إلى خلق أسباب التهديد للقسم الآخر. فخلقت ما يسمى بالبؤر الساخنة لتبرير تدخلها العسكري الذي عد مرادفاً لكل استجابة متوقعة.:                               

 الأهمية الأمنية                                                             
لقد حدث تغير كبير في النظرة إلى الأمن في الخليج، فالأمن بقدر ما يعني سلامة الإقليم من الأخطار الخارجية والداخلية. فإنه جاء معكوساً في الخليج العربي بسبب التدخل المباشر لأميركا فيه...ولم تكن الحالة المتحققة  أمناً بل هي ترتيب مستعار للأمن «وهم الأمن» رسخ معه ضخامة التهديدات المحدقة بالخليج ولا سيما في ظل الضعف الذي يعانيه في المناعة الأمنية على الرغم من توفر العديد من مسببات القوة ومحدداتها فضلاً عن الارتباك الذي غزا العقول وعطل تحديد مدوك امني مشترك... كما رسغ هذا الوهم افتقار الخليجيين إلى حسم معين في بلورة الرؤى والحلول المحددة لمشكلة الأمن وسبب ذلك يعود إلى ميل الجميع إلى طرح رؤاهم بهلامية تبعاً لمحددات الموقف المبعثرة أو رغبتهم في الظفر بقبول اطاريحهم أو نتيجة لسعيهم إلى احتواء مختلف المطامح. وفاتهم ان الأمن هو ثمرة تجمع ورابطة مشتركة لا وسيلة مبتكرة محددة. وإدراكاً لوضع كهذا تقدم العراق برؤية أمنية جامعة شاملة تمثل بمجملها سلوكاً قومياً لا قطرياً، جماعياً لا فردياً، مجتمعاً لا مجتزأ، عضوياً لا عددياً، فما هي مقومات تلك الرؤية ومحدداتها؟                                               

لا يخطئ من يظن ان صنع السياسة الخارجية وتنفيذها يتطلبان القدرة على الجمع بين الثوابت الإستراتيجية والمتغيرات التي تتطلب تطوراً مستمراً في التطبيقات على وفق تطور الأوضاع وتواتر المتغيرات.
ولا تخرج مهمة صنع السياسة الخارجية العراقية عن هذا التصور الذي يعني تمسكها بثوابت معلومة غدت مقومات دائمة تنطلق منها لتصريف فعلها ومتابعتها للمتغيرات الحاصلة في الدوائر الإستراتيجية «الوطنية، القومية، الإقليمية، والدولية» دون التنازل عما التزمت به من ثوابت تدرج الفعل وترابط حلقاته. وقد اتضحت جدوى ذلك التصور بعد العدوان الثلاثيني على العراق حيث حركة التطور والتغيير التي أصابت الفعل السياسي الخارجي العراقي وما أفضت إليه من ضرورة لبناء منظور خاص للسياسة الخارجية العراقية من حيث أولوياتها وإمكاناتها سواء في الحركة أم السوح الفاعلة فيها أم هوامش المناورة، ومن حيث أسلوب الأداء أيضاً، خصوصاً ان الأرضية الواقعية والمباشرة والقريبة المدى لم تعد بذات الصفة قبل العدوان الثلاثيني على العراق الذي أخذت بمضر صفحاته تمثل قيداً على حركة السياسة الخارجية العراقية ولاسيما تجاه الخليج العربي لتتحتم على القيمين عليها إعادة بلورتها من جديد تبعاً لما أحدثته التفاعلات المحيطة بالعراق من تأثيرات مهمة وها فرضته من أنماط تفاعل قسرية في معظمها تبعاً لعمق التأثير الغربي القريب والبعيد الذي لامس بجد ظواهر نمط الفعل العراقي بأسره.                         

وقد بدت الساحة الخليجية برغم كل القيود ساحة تجريب للفعل - التصور العراقي الجديد وبيان المدى التأثيري الذي يملكا خصوصا انه يحمل توجهاً مجتمعي الحركة والفهم لا فعلاً خارجياً حسب. وبذلك أصبحت السياسة الخارجية العراقية معنية بالتعبير عن تلك العلاقة الحركية بين فعل أساس هادف ومتداخل العناصر حيث تأمين الأمن الوطني العراقي ومواجهة تحديات إستراتيجية كبيرة متداخلة التكوين لا بسبب الموقع الذي يحتم عليها الانغماس في مظاهر الأداء الإقليمي حسب بل لان ثقل العراق وانتماءه المصيري إلى منطقة الخليج يحتمان عليه ذلك أيضاً.                                                                              

ولو حاولنا صياغة نبذة موجزة عن ماهية التوجه العراقي حيال الخليج العربي لوجدناها تنطلق، وبخاصة بعد الانسحاب البريطاني من الخليج، من منظور سياسي - إيديولوجي. فالعراق يرى ان الأمن الخليجي جزء لا ينفصل في تحقيقه من الأمن القومي العربي. لذا يدعو إلى:               
أ- الحفاظ على عروبة الخليج عبر طرح إيديولوجي - قومي. وقد بدأت ملامح هذه الدعوة بالظهور منذ احتلال إيران الجزر الثلاث 1971.. وتداعت عبر مشاريع شاملة في أواسط السبعينيات ، عندما طرح الرئيس القائد مشروعه المشهور الخاص بأمن الخليج وتأكيده أن هذا الأمن هو مسؤولية جميع الدول المتشاطئة للخليج العربي. إلا أنها توضحت بشكل اكبر عام 1980 مع إعلانه الإعلان القومي الذي جاءت مفرداته شاملة لتعزيز عروبة الخليج من خلال دعوته إلى انسحاب جميع الأساطيل الأجنبية منه. كما جاء ليشيع الثقة بين أطرافه عن طريق رفض اللجوء إلى القوة في حل المنازعات.              
ب - العمل على صيانة الأمن في الخليج ذلك واضحاً في سبق الأقطار الخليجية إلى تأسيس مجلس التعاون الخليجي أو بدعوته إلى إنشاء قواعد منظمة للحال والعلاقة ولاسيما في تنظيم الملاحة، استخدام النفط بوصفه ثروة قومية، تكملة حلقات الانسجام الأمني بين مفردات الأمن القومي من حيث مقدمات قوته وبما يعزز الوجود العربي في الخليج. وهكذا قدم العراق حلقته الأمنية المعتمدة أساساً على العلاقة بين التوجه الإيديولوجي - القومي والقومي - الإقليمي.
جـ - العمل على التحذير من رهن مستقبل الأمن في الخليج بالأمن الدولي. ويقف وراء ذلك ما لمسه العراق من مضار جراه التدخل الأميركي في الخليج عام 1990 الذي جاء على حساب العمل القومي والأمن الوطني العراقي الذي تأثر على نحس واضح إبان العدوان الثلاثيني على العراق الذي استهدف قبل كل شيء المشروع النهضوي القومي الذي وضع الأمة العربية على مسار جديد من التقدم العلمي على طريق النهضة والتقدم للأمة العربية. وفي سبيل وأد هذا المشروع سعت أميركا بتدخلها ووجودها العسكري في الخليج إلى:                                                                 

1- محاولة تحجيم دور القيادة العراقية الوطنية ذات التوجه نحو الاستقلالية.                                                                       
2- سلب روح المبادرة من القيادة العراقية لإعاقة مسعاها إلى تأدية دور إقليمي متميز.                                                                    
3- سلب انجازات العراق المتحققة ولاسيما التأميم.                      
4- تكثيف محاولات الاختراق للأمن العراقي عن طريق شبكات التجسس، طائرات، الاستطلاع، فرق التفتيش، والرقابة الدائمة بالكاميرات... الخ وبما يجرد العراق من عناصر الدفاع عن سيادته الإقليمية وأمنه الوطني.                                                  
5- العمل على بث الفرقة وتداعيات الانفصال العرقي والتشتت الطائفي كخطوة نحو التفتيت والتقسيم.                                            
6- تعطيل التوازن الاستراتيجي الناشئ جراء النصر العراقي على إيران في أب 1988 لان مهمة الحفاظ على التفوق الصهيوني أمر مهم وهدف أساس للتدخل. وبهذا الصدد تقول غريس هالسيل "لقد مات الأميركيون دفاعاً عن القضية الإسرائيلية وهي تدمير العراق".                            
وبقدر ما كانت هذه الرؤى شمولية وتعاقبية ومتزامنة مع التحديات التي يواجهها الخليج أنظمة وشعوباً كانت تحمل مخاطر موصوفة "حسبها العراق تضحيات لابد منها » وقد توضحت بجلاء بعد العدوان الثلاثيني على العراق إذ:                                                                   

أ- وضع العراق نفسه في نقطة تصادم مع القوى التي تهدد حلقات الأمن الإقليمي والعالمي. وقد انتبه العراق إلى ذلك واخذ يحث الخطى لمراجعة مفاهيم الأمن السائدة في المنطقة لتخرج قيادته بضرورة:                 
1- إتباع الأسلوب الانفتاحي قناة وحيدة لممارسة الدور الايجابي في الخليج كجزء من جهده في إعادة التكيف اللازم مع الحال الجديد ولاسيما وان العامل الجيوبوليتيكي يعمل لمصلحته، وهكذا كانت الخطوات العراقية المحسوبة في العلاقة مع أقطار الخليج العربي وفي مقدمتها قطر وعمان والإمارات العربية المتحدة.               
2- إشاعة أسلوب تأكيد الثوابت فعلاً احتوائياً للتناقضات السياسية. وهنا أشاع العراق حقيقة سيادة الشعوب على ثرواتها، والحفاظ على التوجهات القومية لدى الحكومات، وإيجاد منافذ حرة للتعامل مع الأحداث المتعاقبة بتفهم وايجابية. 3- تأكيد المسعى الوظيفي في التعامل بما يعزز ثقل وجوده المعياري والجغرافي ولاسيما انه يملك منافذ مرصودة عربياً للتفلفل مؤسساتياً وتنظيمياً مما يشجعه على مواصلة بناء تصوره في جملة التهديدات في سبيل تأكيد أهمية وحدة مفهومية الأمن القومي العربي لمصلحة بناء تدابير ثقة مع النظم الخليجية عبر ترتيبات ثنائية أو جماعية.                               
ب - ما تعرض له من محاولات إبعاد عن الخليج وبخاصة بعد تصاعد حدة العداء الغربي للدور العراقي وتزايد مظاهر الرغبة من بعض الأنظمة الخليجية في حصر الترتيب الأمني بالنظم الفرعية أو بدعوة الأطراف الدولية إليه، فضلاً عن الإصرار على ضرورة تحجيم القوى الإقليمية الكبرى التي لم تحسب مسانداً بل تهديداً وقد دعت القيادة العراقية إلى :                                                                                

1-  نسيان خلافات الماضي والعمل على بناء خط شروع جديد في التعامل البيني الخليجي فقد دعا الرئيس القائد صدام حسين في خطابه في 17/1/1998الانظمة الخليجية إلى:                                          
1-    ضرورة تخطي نتوءات وأشواك الطريق التي أدمت القلوب قبل الإقدام وأحزان الماضي بعد ان يتعظ بدروسه ويبنى على فيض معانيه العالية ما يتفق عليه بالحوار الصادق الأمين لتمضي الأمة العربية في مستقبلها بعد ان تكون قد حصنت حاضرها وأمدته بالقدرة الخلاقة المؤمنة التي ترضي الله والشعب.

2-              العمل على إبداع تصور امني للخليج يقوم على ضرورة:

أ- تنقية الوجود الاجتماعي عبر فسح المجال أمام العمالة العربية للعمل في الخليج بدلاً من العمالة الأجنبية التي يجب ان تخضع لإجراءات صارمة في الهجرة والتجنس. وهكذا لوح العراق بحقيقة مفادها ان الأمن في الخليج هو امن شعوب مثلما هو امن منطقة برمتها.       
ب - رفض التحالفات العسكرية والتكتلات الإقليمية الداعية إلى ربط أقطار الخليج العربي بالمسرح الأرضي لاستراتيجيات القوى الكبرى على حساب، الارتباط بمظاهر الأمن القومي العربي.        
جـ- رفض التحالفات العسكرية مع القوى الدولية الكبرى بأشكالها المختلفة من اتفاقيات أمنية، وجود عسكري، معاهدات حماية لأنها عامل مخل بالسيادة الوطنية فضلاً عما تشكله تلك التحالفات من اختراق للأمن القومي العربي.                                             
د- وضع ضوابط تؤمن حرية الملاحة في الخليج.                           
هـ- إقامة علاقات ثقة واحترام متبادل تقوم على أساس احترام السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.                            
و- التخلي عن ما يسمى بتصدير الأمن أو استعارته، كما هو الحال مع المسعى الإيراني إلى تصدير الثورة.                                    
ز- تشجيع المنهج الوظيفي أسلوباً للتعامل الإقليمي ولاسيما في المجال الاقتصادي - الثقافي.                                                               
ح - ضرورة صياغة سياسة نفطية جديدة. فقد أن الأوان لدول الخليج العربية ان تدرك ان ضمانها الأمني يقتضي منها تقليل ضغطها على الجانب الاقتصادي في تحقيق الأمن. فالنفط بقدر ما يوفر لها أمنها فهو مصدر تهديد. لذا لا ينبغي الركون إليه. الا انه يمكن ان يكون عامل ضغط ومساومة مما يجعلها تتمتع بهيبة كبيرة. ومن هنا دعا العراق إلى ضرورة تقنين العلاقات النفطية ثنائياً أو جماعياً من خلال الاوابك والأوبك، كما دعا دول الخليج إلى إدراك حقيقة مهمة مفادها ان ربط أمنها بالنفط سيعطي الفرصة عاجلاً أو أجلاً لتغييب فعلها وعزله عن الأمن القومي العربي بما يؤدي إلى تهميش الصراع العربي- الصهيوني ولاسيما بعد ان وجد الكيان الصهيوني منافذ سهلة الاختراق في الجسد الخليجي.                                         

                            
الفصل الثامن
السياسة الخارجية

اعتمدت ثورة السابع عشر - الثلاثين من تموز 1968سياسة خارجية تنسجم مع مبادئها الوطنية والقومية التقدمية المستمدة من عقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي، وتعبر عن مصالح العراق الوطنية والقومية والدولية وعن رغبته الصميمية في تحقيق الرفاه والتقدم والخير لأبنائه والإسهام الفعال في تحقيق السلام والأمن والاستقرار وإشاعة مبادئ الحق والعدل في هذه المنطقة والعالم والتأثير في المحيط الإقليمي(العربي والإسلامي) والمحيط الدولي، وعلى نحو جعل العراق مركزاً من مراكز النشاط السياسي الفاعل في الوطن العربي والعالم.                         

وقد عبرت سياسة العراق الخارجية في الثلاثين سنة الأخيرة عن مصالح العراق بوصفه دولة عربية مستقلة وذات سيادة، تنتمي إلى حركة عدم الانحياز وتنتهج نهجاً تقدمياً معادياً للاستعمار والامبريالية بمختلف أشكالها وصيفها السياسية والاقتصادية.                                        

تستند سياسة العراق الخارجية إلى مجموعة مبادئ ميزت علاقاته ببلدان العالم كافة ومواقفه إزاء قضايا العالم وأحداثه، وما اعتمده العراق من تدابير وسياسات في تفاعله مع محيطه الخارجي العربي والإسلامي والدولي. ويمكن إجمال هذه المبادئ بما يأتي:                                

1- تعزيز الاستقلال والحفاظ على سيادة العراق وضمان مصالحه وحماية منجزاته الوطنية.                                                
2- التضامن والتعاون مع الأقطار العربية على المستوى الثنائي وفي إطار الجامعة العربية والمجالس والهيئات والاتفاقيات المتصلة بها والتي تحتضن الكثير من جوانب العمل العربي المشترك.            
3- السعي إلى تحقيق أي قدر ممكن من التقارب والتنسيق والتعاون مع قطر عربي أو أكثر على طريق الهدف القومي الأكبر "الوحدة العربية".                                                                    
4- إسناد حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة في تحرير أرضه وتقرير مصيره وبناء دولته المستقلة علي أرضه الوطنية.                  
5- مقاومة العدوان الاستعماري الصهيوني على ارض فلسطين وأراضي الأقطار العربية الأخرى والتصدي لنزعة الكيان الصهيوني التوسعية وتهديده الخطير والمستمر للأمن القومي العربي المشترك وامن الأقطار العربية منفردة.                                
6- الإسهام الفاعل في نضال شعوب العالم ضد الاستعمار والصهيونية وجميع أشكال الهيمنة الامبريالية والعنصرية والاستغلال والأحلاف الاستعمارية.                                                                
7- عدم الانحياز إلى أي من الكتل الدولية والإسهام في تعزيز حركة عدم الانحياز ودورها الايجابي التقدمي في العلاقات الدولية.       
8- إقامة علاقات صداقة وتعاون طبيعية مع دول العالم على اختلاف نظمها وعقائدها السياسية على أساس من التكافؤ في تبادل المصالح الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام حق الشعوب في اختيار أنظمتها السياسية والاجتماعية وسيادتها على أراضيها.     
9- السعي من اجل استتباب الأمن وتحقيق السلام على الصعيد الدولي وضمان تحقيق المزيد من الانفراج الدولي وإزالة شبح الحروب والتوتر والأزمات الدولية وسباقات التسلح.                           
10- تحقيق أعلى درجات المشاركة والإسهام الفاعلين في أنشطة الأمم المتحدة وأجهزتها ووكالاتها ودعم القضايا العربية وقضايا حركة عدم الانحياز وحقوق البلدان النامية ومساعيها من اجل الاستقلال والتنمية وبناء مستقبل مشرق أبنائها.                                              
11- السعي إلى إقامة علاقات حسن جوار مع الدولتين المجاورتين للعراق شمالاً (تركيا) وشرقاً (إيران) على أساس الاحترام المتبادل للسيادة وللخيارات السياسية ولوحدة الأراضي الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.                                                      

على وفق هذه المبادئ بنى العراق سياسته الخارجية على مدى السنوات الثلاثين الماضية لتصبح إحدى العلامات البارزة على استقرار النظام السياسي الذي أرسته ثورة السابع عشر - الثلاثين من تموز المجيدة وعلى صلابته ووضوح هويته.                                                        
وقد عبرت حكومة الثورة في إتباعها هذه السياسة خير تعبير عن إرادة شعب العراق ومصالحه الوطنية والقومية والإنسانية، فالعنصر الأساس في السياسة الدولية، كما أشار السيد الرئيس القائد صدام حسين «حفظه الله »، هو إرادة الشعوب «التي تلعب الدور الحاسم في الاتجاهات الأساسية للسياسة الدولية وتأتي بعدها العوامل الأخرى».                            


العلاقات العربية

حفلت سياسة العراق الخارجية على الصعيد العربي بانجازات وخطوات كبرى عبرت خير تعبير عن المكانة الطليعية لثورة تموز في النضال القومي والخصائص القومية الأصيلة لقيادة الرئيس القائد صدام حسين وفكره الإستراتيجي النير.                                             
وكان من أولى العلامات البارزة على هذا الطريق الدعم الثابت لحق الشعب الفلسطيني في العودة إلى أرضه وتقرير مصيره وبناء دولته في أرضه الوطنية وعاصمتها القدس، وقد جسد العراق هذا الموقف في الإسناد السياسي والمادي والمعنوي لمنظمة التحرير الفلسطينية ولجميع فصائل الثورة الفلسطينية، والتصدي الحازم على الصعيدين الرسمي والشعبي لكل الدعوات والمشاريع التي استهدفت تصفية النضال العربي الفلسطيني. كما عبر العراق عن موقفه هذا بالمشاركة العسكرية الفاعلة في حرب تشرين 1973على الجبهتين السورية والمصرية مما كان له ابعد الأثر في درء مخاطر الاحتلال الصهيوني عن دمشق.                    

ومع تصاعد المخاطر المحدقة بالنضال العربي ضد الاحتلال الصهيوني عام 1978، بادر العراق إلى الدعوة إلى عقد قمة عربية كانت من ابرز محطات العمل العربي المشترك لخدمة الأهداف الإستراتيجية العليا للأمة العربية، فقد نجر مؤتمر القمة العربي الثامن الذي عقد في بغداد في تحديد معالم تعامل الحكومات المربية مع قضية الصراع العربي- الصهيوني على مدار أكثر من عشر سنوات.                    

وفي شباط 1980 طرح الرئيس القائد صدام حسين ميثاقاً متكاملاً للعلاقات بين الأقطار العربية ولما ينبغي ان تكون عليه مواقفها إزاء القوى الأجنبية. وضمت النقاط الثماني للإعلان القومي مبادئ أساسية تنظم علاقات الأقطار العربية بعضها ببعض وعلاقاتها بدول الجوار وبالقوى الأجنبية، وتدعو إلى حل أي نزاع بين الأقطار العربية في إطار العمل العربي المشترك والى إقامة أرضية من التعاون المستمر بين هذه الأقطار.                                                                          
وفي قمة عمان عام 1980 طرح الرئيس القائد صدام حسين «حفظه الله » تصور العراق الستراتيجي للتنمية القومية.                              
وفي إطار التوجه الوحدوي الذي طبع سياسة العراق الخارجية على الصعيد العربي عمل العراق على دعم مسيرة العمل العربي المشترك في الميادين كافة ودعا إلى شمولها الجوانب الاقتصادية والثقافية وغيرها، وجسد هذا التوجه في حرصه على تعزيز عمل جامعة الدول العربية وتذليل ما يواجهها من معوقات مادية، على الرغم من ظروفا الصعبة في أثناء معركة القادسية في الثمانينيات.                                        
كما كان العراق المبادر إلى بناء الحد الأدنى من العمل العربي المشترك بعد عودة مصر إلى جامعة الدول العربية.                                  
وقد توج العراق توجهه الوحدوي هذا في إقامة مجلس التعاون العربي مع الأردن ومصر واليمن عام 1989 لتعزيز التعاون والتقارب بين الأقطار العربية عن طريق إنضاج الظروف اللازمة لتحقيق الهدف القومي الأسمى للأمة العربية وهو، الوحدة.                                
وعمل العراق من خلال حضوره مؤتمرات القمة العربية على الحث على التعاون والتضامن ورص الصفوف بين الأقطار العربية في الميادين العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية لمواجهة متطلبات المعركة مع العدو الصهيوني من جهة ولتحقيق شروط مواجهة الظروف الدولية وما تشهده من تكتلات وتحالفات إقليمية سياسية واقتصادية وعسكرية من جهة أخرى.                                                                              

العراق في المحيط الإسلامي

وعلى الصعيد الإسلامي، سعى العراق في الثلاثين سنة الماضية إلى مواصلة علاقات التعاون الطبيعية التقليدية مع البلدان الإسلامية في أسيا وإفريقيا. واسهم إسهاماً متميزاً في كل الأنشطة التي جرت في إطار العمل الإسلامي المشترك سواء من خلال مؤتمرات المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم أم مساعيه المستمرة إلى التنسيق والتعاون مع الدول الإسلامية في المحافل والمنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومؤتمرات حركة عدم الانحياز الرئاسية والوزارية.                                    

العراق وعدم الانحياز

أدى العراق دوراً نشيطاً وفاعلاً على مدى سنوات الثورة الثلاثين في مؤتمرات حركة عدم الانحياز الرئاسية والوزارية انطلاقا من إيمانه العميق بان الأمة العربية، بما تتمتع به من شخصية حضارية متميزة وثقل سكاني واقتصادي وسياسي عظيم وموقع إستراتيجي مؤثر بين قارات الأرض، ينبغي ان يكون لها خطها السياسي المستقل وهويتها الواضحة البعيدة عن الكتل والأحلاف الدولية.                                          
وعلى هذا الطريق أسهم العراق إسهاماً كبيراً في جميع أنشطة حركة عدم الانحياز، وفي المقدمة منها الإسهام الفاعل للسيد الرئيس القائد صدام حسين «حفظه الله» في مؤتمر القمة السادس لحركة عدم الانحياز في هافانا- أيلول 1979، إذ قدم سيادته فيه مشروعاً إنشاء صندوق لإعانة البلدان النامية على مواجهة الأزمات الاقتصادية الدولية.                    

وقد وافق المؤتمر على دعوة العراق إلى احتضان المؤتمر السابع في عام 1982تعبيراً عن تقدير دول حركة عدم الانحياز لمكانة العراق الرائدة في الحركة بوصفه إحدى الدول المؤسسة لها. واتخذ العراق استعدادات ضخمة لاستضافة المؤتمر وأنجز متطلبات ذلك لولا ان ظروف الحرب العراقية.                                                        
- الإيرانية وتهديدات إيران بقصف قاعة المؤتمر حالت دون انعقاده.
وقد واصل العراق حضور فعاليات الحركة والمساهمة في تنمية الخط التقدمي الإنساني فيها وإبعادها عن التأثيرات المخالفة لنهجها الأصيل الذي رسمه اجتماع باندونغ عام 1955، والمؤتمر التأسيسي لعام 1991.


العراق والعالم

عمد العراق منذ بدء مسيرة ثورته المجيدة في عام 1968 إلى انتهاج سياسة مع دول العالم المختلفة تقوم على أساس السعي إلى إقامة علاقات تعاون وصداقة مع هذه الدول سواء الغربية منها أم الشرقية أم غير المنحازة والمحايدة، في إطار من التكافؤ في المصالح المتبادلة والاحترام للسيادة والخيارات السياسية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.          

وقد أثمرت هذه السياسة في عام 1972إذ عقدت معاهدة الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفيتي السابق، وعقدت اتفاقيات مهمة معه ومع بولندا لمساعدته في استثمار ثرواته النفطية والمعدنية وطنياً. كما عزز العراق علاقاته بالصين في جميع المجالات.                                

وأقام العراق علاقات متميزة مع فرنسا وعقد اتفاقيات مهمة معها للتعاون العلمي والتقني والتجاري. كما توجه العراق إلى إقامة علاقات واسعة مع عدد كبير من دول العالم مهتدياً بفكر السيد الرئيس القائد صدام حسين "حفظه الله"  الذي يقول: «ان سياستنا المستقلة لا تعني الانغلاق أو الانعزال ومن ضرورات سياستنا المستقلة ان نبنى أوسع العلاقات مع بلدان العالم على أساس المصالح الوطنية والقومية وعلى أساس المبادئ عدا تلك التي تتآمر علينا وعلى امتنا وتهدد مصالحنا وآمننا».            

ومنذ منتصف السبعينيات رسم السيد الرئيس القائد صدام حسين "حفظه الله" معالم سياسة العراق الخارجية على الصعيد الدولي في ضوء مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي، وحدد عام 1974في حديثه «نحن والسياسة الدولية » وفي موضوع «التوازن الدولي» المسار الذي ينبغي ان تتخذه علاقات العراق والدول العربية مع الدول التي لا تسلك سلوك الهيمنة بما يعزز موقع هذه الدول باتجاه خلق توازن دولي يخدم المصالح القومية للأمة العربية. وتوقع سيادته دوراً متنامياً فعالاً لهذه الدول في تثبيت التعددية القطبية بما ينعكس ايجابياً على نضال الأمة العربية وشعوب - البلدان النامية عموماً.                                               

وما ان ظهرت علامات اختلال التوازن الدولي في الأفق مقترنة ببدء انهيار الاتحاد السوفيتي حتى بادر العراق إلى التنبيه المبكر على خطورة السلوك الذي ستسلكه الولايات المتحدة في تعاملها الدولي. وعبر عن ذلك السيد الرئيس القائد صدام حسين «حفظه الله» في خطابه بمؤتمر قمة عمان لمجلس التعاون العربي في شباط.99االذي قدم تصوراً سياسياً إستراتيجياً لما ستؤول إليه العلاقات الدولية في ظل النزوع الأميركي إلى فرض الأحادية القطبية على العالم.                                           

وفي إطار التوجه الحان م الذي اتسمت به سياسة العراق الخارجية إزاء النزوع العدواني الأميركي إلى الهيمنة على العالم وقف وقفة شجاعة ضد تهديدات أميركا ومؤامراتها لحجب حلقات التقدم والتقني المتسارع عن الأمة العربية.                                                                     

مرحلة أم المعارك

وبعد بدء الحملة العدوانية الاستعمارية على العراق التي بدأت بإجراءات الحصار الاقتصادي الشامل في أب 1990  الذي سرعان ما اقترن بعدوان عسكري ثلاثيني غادر في كانون الثاني 1991، ركزت سياسة العراق الخارجية في فضر المخطط الامبريالي الصهيوني الذي قادته الولايات المتحدة والمتمثل بفرض الحصار الاقتصادي الشامل على العراق منذ أب 1990 حتى الآن والعدوان العسكري الثلاثيني الغادر وإجراءات التدخل العسكري والسياسي الأميركي والبريطاني في الشؤون الداخلية للعراق التي تمثلت بفرض مناطق للحظر الجوي والتحليق المستمر في أجواء العراق والسعي إلى إضعاف سلطة الدولة المركزية وتغييبها فعلاً في المنطقة الشمالية وإتاحة الظروف المناسبة للخروق والانتهاكات الاستخبارية والسياسية والأمنية والعسكرية الأجنبية لسيادة العراق ووحدة أراضيه في تلك المنطقة. كما توجهت سياسة العراق الخارجية إلى فضح المخطط الاستعماري لتدمير قدرات العراق العسكرية والاقتصادية وإدامة الحصار الظالم على شعبه من خلال إدامة أعمال اللجنة الخاصة المتحيزة ضد العراق والمنفذة للسياسة الأميركية والبريطانية المعادية للعراق. وبذل العراق جهوداً كبيرة من اجل تبديد السحب التي تلبدت في سماء علاقاته بعدد من الأقطار العربية وتخطي الحواجز الناجمة عن ظروف الأزمة التي وقعت في عامي1990-1991 جراه العدوان الاقتصادي والعسكري الشامل على العراق، وعن الضغوط السياسية والاقتصادية التي مارستها الولايات المتحدة ضد البلدان العربية وتهديداتها وابتزازها لحكومات عدد من هذه البلدان.. ناهيك عن الأدوار الخبيثة التي لعبها نظام الكويت في محاولة عزل العراق عن محيطه القومي بمختلف الوسائل.                                                      

وقد أبدى العراق استعداده لتجاوز أجواء الماضي ولفتح صفحة جديدة، واستطاع ان يستأنف علاقاته السياسية الطبيعية مع معظم الأقطار العربية التي تأثرت علاقاتها به إبان ظروف الأزمة بعد عام 1990.              
وشهدت علاقات العراق بجميع الأقطار العربية اتصالات متواصلة وزيارات كثيرة قام بها مسؤولون عراقيون لتوضيح وجهة نظر المراق في العلاقة بمجلس الأمن وظروف الحصار المفروض على شعبه منذ ثماني سنوات وتصرفات اللجنة الخاصة التي تنفذ سياسات أميركية - بريطانية تهدف إلى إدامة الحصار الظالم على شعب العراق لتحقيق أغراض سياسية معادية للعراق كياناً ودولة ونظاماً سياسياً وهي الأغراض السياسية التي لا تخفيها المصادر الرسمية الأميركية والبريطانية، برغم حجب التضليل والتزوير والخداع التي تطلقها بكثافة لستر حقيقة المؤامرة الاستعمارية المستمرة على شعب العراق.         

وقد تمخضت الاتصالات المتواصلة بالأشقاء العرب في الأقطار العربية، فضلاً عن الوضوح المتزايد لقضية شعب العراق ولطبيعة الظلم المفروض عليه، عن موقف عربي شعبي شامل مساند للعراق في وجه استمرار الحصار وتهديدات أميركا وبريطانيا بالاعتداء عليه، كما تمخضت عن موقف عربي رسمي شامل (باستثناء الكويت) يعارض العدوان على العراق ويطالب برفع الحصار عن شعبه، وتجلى ذلك في أثناء الأزمة الأخيرة التي افتعلتها أميركا وبريطانيا من خلال ممثليهما في اللجنة الخاصة في أواخر العام الماضي وبداية العام الحالي.              

كما ركزت السياسة العراقية الخارجية في السعي إلى تجاوز الحواجز التي أقامتها أميركا وحليفاتها في وجه العراق على الصعيد الدولي من خلال ممارستها الضغوط السياسية والاقتصادية والابتزاز والتهديد العسكري ضد كثير من بلدان العالم.                                                            

وقد تمكن العراق بفضل حكمة قائده المظفر الرئيس صدام حسين «حفظه الله » وإدارته الدقيقة معركة الشعب ضد المؤامرة الاستعمارية المتعددة الصفحات والجوانب، وبفضل مثابرة أجهزته السياسية والدبلوماسية من فتح الكثير من الآفاق الرحبة المساعدة على تثبيت مشروعية المطاليب العراقية وتهافت وعدم شرعية منطق الحكومتين الأميركية والبريطانية وموقفهما المعادي للعراق. كما تمكن العراق بفضل ذلك من إحباط المخطط الأميركي - البريطاني لشن العدوان والحرب على شعبه في أوائل عام 1998 وتوج جهوده الدبلوماسية بالاتفاق المهم الذي عقده نائب رئيس الوزراء مع الأمين العام للأمم المتحدة في 23/2/1998، وثبت رسمياً وجوب احترام اللجنة الخاصة لسيادة المراق وشواغله الأمنية المشروعة، وضروة ان يفضي عملها إلى تطبيق الفقرة (22) من القرار(687) لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق.                                                                           

وقد أفلحت السياسة الخارجية العراقية على مدى السنوات الماضية وخصوصاً في أثناء الأزمة الأخيرة في تعرية السياسة الأميركية الرامية إلى تدمير قوة العراق العسكرية وطاقاته الاقتصادية وتخريب نهضته الحضارية وقلب نظامه الوطني باستخدام اللجنة الخاصة المتحيزة ضد العراق والمنفذة للسياسات الأميركية - البريطانية المعادية للعراق.     

وقد أسهم الالتفاف الشعبي حول قيادة الرئيس القائد صدام حسين «حفظه الله » في داخل العراق وفي الوطن العربي وكثير من البلدان الإسلامية وغيرها في توفير الأرضية الصلبة للسياسة الخارجية العراقية في أثناء الأزمة الأخيرة وللتحرك النشيط من جانب الدبلوماسية العراقية على الصعيدين العربي والدولي لدرء خطر التهديد الانكلو - أميركي بالعدوان على العراق، وفي فضر المخطط الاستعماري الرامي إلى إدامة الحصار الظالم على شعبه.                                                    

ولم يقتصر اتفاق 23/2/1998 الذي عقده العراق مع الأمين العام للأمم المتحدة على معالجة الأزمة التي افتعلتها أميركا وإنما استهدف أيضاً تعزيز التوازن الدولي المتنامي وتطوير دور الأمم المتحدة المهيمن وذلك من خلال تعزيز دور روسيا وفرنسا ومنح الفرص الضرورية لنجاح مبادراتهما إلى حل الأزمة.                                                    

وهذا المسعى جزء من التوجه الذي سارت عليه سياسة العراق الخارجية منذ بداية التسعينيات لفضح مخاطر النزوع العدواني الأميركي إلى فرض الهيمنة على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.. هذا النزوع الذي أكد بما لا يقبل الشك صحة توقعات الرئيس القائد صدام حسين «حفظه الله » في قمة عمان (شباط 1990) لسلوك أميركا عندما تنفرد بالعالم.                                                                             

وقد شجع العراق عبر كل المحافل الدولية والإقليمية على عودة التوازن الدولي والتعددية القطبية في إطار العلاقات الراهنة. وركز العراق في تشجيع دور روسيا والصين وفرنسا في العلاقات الدولية بما يخفف من الهيمنة الأميركية ويحفز على إعادة التوازن الدولي.                       

ويمكن القول ان السياسة الخارجية العراقية قد سعت مملى مدى السنين الثلاثين الماضية إلى التعبير عن جميع عناصر القوة والفعل المؤثر التي أضفتها ثورة 17- 30 تموز المجيدة على العراق، وهي العناصر المستمدة مما أطلقته الثورة في بلاد الرافدين من إمكانيات اقتصادية كبيرة وطاقات بشرية خلاقة ومبدعة، وما استلهمته الثورة من تراث العراق العظيم والأمة العربية المجيدة وأمجادهما الخالدة والمتواصلة في الحضارة الإنسانية عبر آلاف السنين، ومما يتميز به العراق من موقع إستراتيجي وما حباه الله بقائد وطني تاريخي ذي بصيرة وفكر قومي ثاقبين وتطلع دائب إلى كل ما يليق بالعراق وأمته العربية من مكانة سامية ومجد عظيم، ومستقبل مشرق.                                                                 









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق