الثلاثاء، 15 ديسمبر 2015

كتاب العراق ثلاثون عاما ...من مسيرة الخير والتقدم ... وزارة الثقافة العراقية 1998 ....الجزء الاول



اللجنة التحضيرية للذكرى التاسعة لاستشهاد الرئيس الخالد صدام حسين 

هدية من لجنة لبنان 




تمهيــد

باحتفال العراق بالذكرى الثلاثين لثورة السابع عشر- الثلاثين من تموز تكون قد مرت ثلاثة عقود من العمل الحافل والجهد المثمر والانجازات الكبرى والتحديات الخطيرة التي نقلت العراق من حال إلى حال، من دولة يمزقها التناحر والاضطراب وعدم الاستقرار السياسي، وتشيع في ربوعها أشكال التخلف الاقتصادي والاجتماعي والتقني والعلمي والتبعية الاقتصادية، ولا يقترن باسمها أي دور مؤثر في محيطها الإقليمي والدولي على الرغم من كل ما تنعم به من ميزات وخيرات طبيعية هائلة وما تحظى به من طاقات بشرية خلاقة ومؤهلة، إلى دولة حققت الاستقرار السياسي وأمنت الرفاه والخير لأبنائها فضلاً عن تحقيق التحرر الاقتصادي ومستوى عال من التقدم العلمي والتقني والتأثير الايجابي الكبير في محيطها العربي والعالمي.
ولهذه النقلة التاريخية الكبرى في تاريخ العراق الحديث جوانب شتى وصفحات متعددة من العمل القيادي المؤثر والتخطيط الهادف والاستنباط الذكي للحلول والاستلهام المتواصل لتاريخ العراق والأمة العربية والشجاعة المتناهية والحكمة والمقدرة على التصدي للمخاطر وقيادة الشعب في مواجهة المؤامرات والتحديات الأجنبية، والصدق والإخلاص المبدئي في حمل شرف المسؤولية وأداء الأمانة التاريخية، وهي الخصائص التي اجتمعت في شخص الرئيس القائد صدام حسين حفظه الله ورعاه الذي خطط للثورة وقادها ورسم خططها الإستراتيجية وخطواتها المرحلية واشرف على تنفيذ كل صفحاتها وقاد جميع معاركها وصمم لانتصاراتها وانجازاتها على طريق المستقبل المشرق للعراق والأمة العربية.

فإلى قائد مسيرة الثورة، مسيرة الخير والتقدم نهدي هذا الكتاب.

وزير الثقافة والاعلام

تموز /1998

 ------------------------------------------

المقدمـــة

ليس من اليسير أن تقدم في مرجع واحد صورة كاملة عن العراق في ظل ثورة السابع عشره الثلاثين من تموز إبان مسيرة الثلاثين عاماً الماضية بكل ما انطوت عليه هذه المسيرة من نشاط سياسي واسع، وتقدم اقتصادي كبير، وعمل ثقافي متنوع، وإبداع فني أصيل ومتجددة وحركة تحديث وتطوير شاملين، وتواصل وتفاعل دائمين وعميقين مع العالم،  وانفتاح على حضارته وحركته وتطوره وبكل ما تتسم به عناصر هذه الصورة من تنوع وزهو وقوة وعنفوان وتحد.
ولا تتوقف الصعوبة عند إمكانية جمع كل هذه العناصر في مرجع واحد بل في الموازنة الدقيقة بين الفصول التي تناولتها أقلام نخبة من الكتاب والمتخصصين في إطار خط تحريري واحد.
وكان لا بد أن نبدأ بالعمق التاريخي لهذه المسيرة التي استلهمت أمجاد العراق والأمة العربية والدفق المتواصل من عطاءاتهما الخالدة لخير أبنائها وخير البشرية جمعاء، فأفردنا له فصلاً مثلما أفردنا فصلاً آخر لما انطلقت منه هذه المسيرة من إطار طبيعي وتكوين جغرافي وبشري واقتصادي.
ثم تناولنا في الفصل الثالث الأرضية السياسية والمبدئية التي ارتكزت عليها مسيرة ثورة 17- 30 تموز المجيدة متمثلة بدور حزب البعث العربي الاشتراكي في النضال القومي في العراق.
وإذ يوثق هذا الكتاب مسيرة الثورة في ثلاثين عاماً فانه لا بد أن يستعرض ابرز ظاهرة سياسية في تاريخ العراق المعاصر وهي قيادة الرئيس القائد صدام حسين ((حفظه الله )) لهذه المسيرة التي تمكنت بالتخطيط للثورة وقيادة عملية تنفيذها ثم تطهيرها من العناصر الطارئة ورسم خططها الإستراتيجية والسهر على تنفيذ برامجها وتصميم جميع إنجازاتها وقيادة معاركها ضد أعداء شعب العراق والأمة العربية والسير بهذه المسيرة في دروب مفتوحة نحو المستقبل.
ويتناول الفصل الخامس الخلفية التاريخية المعاصرة لمسيرة الثورة، ويستعرض أهم المحطات والعوامل والملامح في مسيرة العراق السياسية منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عام 1921 حتى قيام ثورة السابع عشره الثلاثين من تموز وبما يوضح حجم معاناة العراق وشعبه من ظروف عدم الاستقرار والاضطراب السياسي والتخلف الاقتصادي والتدخل الأجنبي في شؤونه.
وكان لهذه المسيرة مواقف مشهودة ومؤثرة في مواجهة التحديات القومية، وقد بسدها الفصل السابع الذي يستعرض الإجراءات والسياسات والتدابير التي اتخذها العراق في الثلاثين سنة الماضية في مواجهة التحديات الكبيرة على المستوى القومي.
أما سياسة العراق الخارجية في ظل ثورة السابع عشر - الثلاثين من تموز يوضحها بالتفصيل الفصل الثامن سواء في جوانبها العربية العالمية أم العالمية وبما يوضح الدور النشيط والفاعل للعراق على الصعيدين العربي والعالمي.
ويستكمل الفصل التاسع جانبا مهما من سياسة العراق الخارجية المتمثل بعلاقاته الاقتصادية الواسعة بدول العالم.
ومن أوجه البارزة لثورة السابع عشر- الثلاثين من تموز المجيدة مسيرتها الديمقراطية وما حفلت به من إجراءات وتشريعات وممارسات نهلت من فكر قائدها الرئيس صدام حمين "حفظه الله" ومن توجيهاته الثرة وقد تناولها الفصل العاشر.
أما الفصل الحادي عشر فقد ركز في جانب مهم وحيوي من جوانب مسيرة الثورة المجيدة وهو التنمية الاقتصادية التي لقيت في الثلاثين سنة الماضية اهتماماً كبيراً من لدن قائد الثورة سواء على صعيد الفكر والتخطيط الاستراتيجي أم على صعيد التنفيذ المبرمج الدقيق. ويستعرض الفصل خطط التنمية في العراق قبل الثورة، ثم انطلاق التنمية في آفاقها الرحبة بعد تأميم النفط عام 1972 ويقدم مؤشرات مهمة للتطور الكبير الذي حققته الثورة في هذا الميدان وفي القطاعات كافة.
وفي إطار حماية الوطن والدفاع عن سياسته وعن مكتسبات الشعب واجهت الثورة تحديات خطيرة وهو ما يستعرضه الفصل الثاني عشر الذي يتحدث عن دور القوات المسلحة والجيش الشعبي وفدائيي صدام في معارك الدفاع عن الوطن والشعب.
وامتداداً لذلك يتحدث الفصل الثالث عشر عن معركة قادسية صدام المجيدة التي كانت من أبرز التحديات الخطيرة التي واجهت الثورة في سعيها الدائب إلى ترسيخ إنجازاتها الوطنية وتأكيد هويتها القومية والإنسانية.
ويسلط الفصل الرابع عشر الضوء على واحد من اخطر التحديات التي واجهها العراق وواجهتها مسيرة الثورة حتى الآن، أي العدوان الثلاثيني الأطلسي وخلفياته المتمثلة بالحصار الاقتصادي الجائر والسعي المستمر إلى إضعاف سيادة العراق وهدم كيانه الوطني، وتغيير نظامه السياسي الوطني، كما يوضح الفصل مواجهة قيادة العراق وشعبه لهذه المؤامرة على جميع المستويات في ملحمة أم المعارك الخالدة.
ويوضح الفصل الخامس العشر رد العراقيين الأسطوري على هذا العدوان ويستعرض بالشرح والتحليل الجوانب المختلفة لعملية إعادة البناء الشاملة وللتدابير والإجراءات التي اتخذت لمواجهة مؤامرة الحصار.
نأمل من الله التوفيق والسداد في ما قدمناه من عرض لمسيرة ثورة السابع عشر الثلاثين من تموز الظافرة على مدى العقود الثلاثة الماضية من عمرها الطويل..  وأن نكون قد أوفيناها حقها في إطار ما تسمح به مساحة هذا الكتاب..

ومن الله التوفيق 
المحرر العام 1998



العـراق

في كلمات
الرئيس القائد صدام حسين


* أول حضارة على الأرض وجدت في العراق .. أي ان أول نشاط إنساني منظم وناضح ومؤطر بسياقات معلومة ومفهومة قد ظهر في العراق، وليس في أية دولة في العالم، وتمت الاستفادة منه إنسانياً وليس وطنياً فقط.
* إن عمر دورنا الحضاري هو ستة آلاف سنة، أي عمر الحضارة منذ بدأ الإنسان ينظم نفسه، ويكون مسؤولاً في إطار الجماعة، ويقيم الدولة وينظم وفق أوامر، ونواه، وتطبيقات وكل واحد يعمل بطريق معين ويعرف حقوقه وواجباته.
* لقد تهيأت للعراقيين فرصة ممارسة الدور الوطني والإنساني الصحيح في ظل الثورة، بعد أن عاب هذا الدور منذ سقوط بغداد سنة 1258 عندما اجتاحها المغول.
إذن فهذا يعطيهم صبرا وفاعلية غير اعتياديين، وعلى هذا الأساس وباختصار نستطيع أن نفهم صبر العراقيين، وقدرتهم على التحمل والمجابهة، سواء في البناء أو في الدفاع عن الوطن وعن البناء.
* العراق الجديد بعد أن تهيأت له الظروف التي تجعل استحضار الربط بين الحاضر والحلقات المشرقة من الماضي ممكناً، قادر على أن يفعل أي شيء: في الزراعة والصناعة وفي الخدمات وفي العلوم وفي الثقافة مثل الذي يفعله أي من الشعوب الذكية في الأرض، والفارق هو زمن وإمكانات فقط.


 ------------------------------------------------------------------- 
الفصل الاول

 العراق في التاريخ

تشير البحوث والقرائن الاثارية إلى العمق التاريخي للثقافة في العراق (بلاد وادي الرافدين) إذ عثر على مواد أثرية مصنعة يمود تاريخها إلى نصف مليون سنة مضت، حيث مماش الإنسان في كهوف الأقسام الشمالية من العراق، وتكشف آثار كهف شنايدر (45-50ألف سنة) عن التقدم الملحوظ لإنسان هذا الكهف على من عاصره من أولئك الذين كانوا يسكنون أوروبا وأفريقيا، فقد ظهر تطور نوعي في حياة الإنسان تمثل بترك الكهوف والاستقرار قرب شواطئ الأنهار، وظهرت ممارسات أولية للزراعة والتدجين وتصنيع الآلات الزراعية والفخار، أي ابتدأ ينتقل من الاقتصاد الاستهلاكي إلى الاقتصاد الإنتاجي ومارس تقسيماً أولياً للعمل، وعلى نحو ابتدائي للتخصص الاجتماعي.
لقد كانت محصلة تلك الحقبة الزمنية انتقال الإنسان من الحياة العفوية (جمع القوت) إلى الحياة المنظمة (إنتاج القوت) وتوجت بظهور القرى الزراعية الأولى التي تقدمت تقدماً ملموساً عبر زمن محدود عرف بالعصر الحجري الحديث وتمثل بأدوار حضارية كشف عنها في مواقع اثارية متعددة منها قلعة جرمو في محافظة التأميم وتل حسونة في محافظة نينوى، وتل الصوان في سامراء في محافظة صلاح الدين، وفي موقعي العبيد واريدو في محافظة ذي قار، وموقعي جمدة نصر والعقبر في محافظة بابل، ومواقع أخرى كثيرة في محافظة ديالى.
ويقف وراء هذا التطور عنصران أساسيان هما البيئة وإنسانها، فالموقع والمناخ والتضاريس والموارد المائية لعبت دوراً أساسياً في توجيه النشاط الحضاري للإنسان. وفي مقدمة ما يثير الاهتمام في جغرافية العراق موقعه الذي اصبر متميزاً بفعل ثرواته الطبيعية وميزته السوقية بوصفه جزءاً من الجسر الأرضي الذي يربط العالم القديم، ولان العراق مغلق نسبياً من الشرق والشمال بالسلاسل الجبلية ومفتور من الغرب والجنوب بحكم الهيمنة الصحراوية التي تصله ببادية الشام وشبه الجزيرة العربية فقد اكتسب عبر تاريخه مقومات التميز الحضاري البشري والثقافي مما ساعد على اكتساب هويته الثقافية والحضارية. وظهر اثر الموقع أيضاً في مناخه، فغي حين كانت الأقسام الشمالية من أوروبا تعيش عصرها الجليدي كان العراق جزءاً من أراض يسودها نظام مطيري جعلها مناطق خضراً تتخللها الأنهار وتسرح فيها الحيوانات. لقد ظهرت قيمة دجلة والفرات وروافدهما في الانتقال التاريخي من البدائية إلى الحضارة لان القرى الزراعية الأولى ظهرت على ضفافهما فكان لهما دور أساسي في حياة الإنسان في مجالي الري والانتقال بخاصة.

سكان العراق القدماء
يتفق المؤرخون على أن الإنسان العراقي القديم يقف وراء التطور الحضاري المشهود في العراق وهو صاحب رسالة التطور النوعي للمجتمع والانتقال التاريخي به من البدائية إلى الحضارة والمدنية لكنهم ينكرون عليه التطور اللاحق الذي ظهر في الإلف الرابع ق.م على الرغم من أنهم لم يعثروا حتى الآن على موقع واحد في العالم يزامن المواقع الحضارية العراقية أو يبلغ ما بلفته من إبداع حضاري على أيدي سكانها من سومريين واكديين وغيرهم من الأقوام التي سكنت بلاد وادي الرافدين في تلك الأزمنة المبكرة من التاريخ. لقد رفد سكان المناطق الشمالية الحضارة بمناصر مبتكرات لا تضاهى شأنهم شأن سكان المناطق الجنوبية. وبتبادل الخبرة وانصهار الأفكار ظهرت حضارة العراق ونمت وتطورت في العصور التاريخية. لاحظنا ان القرى الأولى ظهرت بجهود الإنسان العراقي وهو الذي طور أنماط الحياة فيها وابتكر حاجاتها الأساسية وهو مكان العراق القدماء الذي ابتكر الكتابة وادخل البشرية في ما يعرف بالعصور التاريخية أو عصر فجر التاريخ (3000 سنة ق.م) حيث تطورت قرى كثيرة إلى مدن شهدت ظهور أول أشكال السلطة (السلالات الحاكمة) أو عصر دويلات المدن السومرية مثل كيش والوركاه واور ولكش واوما. والملاحظ على معظم المدن الحضارية تركزها فيما حول نهر الفرات في القسم الأوسط و الجنوبي من العراق. والراجح ان جريان الفرات في ارض مستوية، جانبها الغربي هضبي مرتفع، تنحدر باتجاه دجلة جعل حوضه أكثر ملائمة للاستقرار البشري، إذ يمكن التحكم في فيضانه بتحويله عبر قنوات إلى دجلة فضلا عن إمكانية إقامة المدن على الحافات المرتفعة غربي النهر. والذي يدقق في قوس المدن الأولى (اور واريدو والوركاء ونفر) وان نهر الفرات يمثل خط الإمداد الدائم من شبه جزيرة العرب للإنسان العراقي الذي اضطلع بمعظم النتاجات الحضارية في وادي الرافدين يجد دعما لهذه الفرضية، فهي بعيدة نسبيا عن مجرى النهر الحالي وربما ربطت بالنهر عن طريق قنوات توصل الماء وتسمح بالملاحة في أن واحد، على خلاف حوض دجلة حيث كانت سرعة الجريان وطفيان النهر على كلا الضفتين إضافة إلى تهديدات خارجية مثلتها القبائل الجبلية في المرتفعات الشرقية بخاصة، قد عقدت فرص استقرار حضاري فيه.

تطور التاريخ في العراق
 ابتدأ النشاط البشري الملموس في بلاد وادي الرافدين في حدود (100-60) ألف سنة ق.م، حيث ظهرت آثار الجماعات الأولى من إنسان نياندرتال في منطقة الرطبة وحوض صدام وكهف شنايدر. وتدل الاثار المكتشفة حتى الآن على اهتمامات الإنسان، كما تحدد في الوقت نفسه طبيعة حياته ومصادرها، وابرزها (الالتقاط والصيد). وتدل آثار الحيوانات المتوحشة التي عشر عليها في هذه المناطق وقرب مراكز استقراره على أصول الحيوانات التي دجنها الإنسان فيما بعد. وتكشف البقايا العظمية المكتشفة لإنسان تلك الفترة عن أوجه الشبه بينها وبين المجموعة البشرية المعاصرة لها التي عاشت في فلسطين مما يدل على وجود علاقة بينهما. وعبر العصور الثلاثة التي اصطلح عليها المؤرخون (العصر الحجري القديم، والأوسط، والحديث) تطور نشاط الإنسان الأول في العراق وبدأ انتقاله التاريخي من الالتقاط والصيد إلى الزراعة والتدجين وظهر اثر هذا التطور في نضر كفاءة الأداء والعمل إذ بدأت مصنعاته من الآلات تتنوع لتلاءم شكل الإنتاج وتتحسن من حيث المواد الأولية والمظهر الخارجي والكفاءة لتلاءم حاجاته الاجتماعية والذوقية. وفي العقدين الأخيرين من الألف العاشر ظهرت القرى الزراعية التي كشفت طبقاتها الأولى عن نشاط زراعي حيواني منتظم وكشفت عن استقرار اجتماعي منفتح عرف مستوى من الترف.
وهكذا ازدهر الاستقرار الاجتماعي في مئات القرى الزراعية. وتنوعت مصادر الإنتاج والوسائل المستخدمة فيه، وعبر الاستقرار الاجتماعي عن نفسه في نضر مستمر في المستخدمات الاجتماعية. على ان ابرز المبتكرات التي لها أهميتها الاجتماعية آنذاك والتاريخية هو (الفخار) الذي اصبر تطور صناعته وزخرفته وشكله مقياسا لتمييز حقب من التقدم في العصر الحجري الحديث وهو سمة تعكس سرعة التقدم الاجتماعي. وشاع استخدام المعادن وتطور النمط العمراني بتطور المباني وتطور تلوين الخزف وتطورت المعابد وتطور الفن واتسع انتشار مراكز الاستقرار الاجتماعي في وسط العراق ونموها السريع، وظهر الدولاب الذي يصنع به الفخار وبدأت الحضارة العراقية تأخذ طريقها إلى خارج العراق، وفي فجر التاريخ (3000 ق.م) تعززت مكانة المعبد ودوره الاجتماعي والاقتصادي الذي ارتبط بتطور القرى الزراعية إلى مدن يتسع فيها التخصص الاجتماعي شمولا ودقة، ويعبر ظهوره عن بداية نشوء المركز الذي يقود النظام الاجتماعي العام، وقد توج هذا التطور بابتكار الكتابة إذ عشر على أول نموذج لها بهيئة صورية تعود إلى سنة 3000 ق.م في الطبقة الرابعة من موقع مدينة الوركاء، وظهرت آثار هذا العصر وأبرزها الأختام الاسطوانية والكتابة في سوريا ومصر وعيلام وأواسط انضوليا. ويدل هذا الانتشار على الأثر المبكر للنشاط الحضاري في العراق في الأقوام المجاورة كما يعطي فكرة عن حجم التطور الذي شهده العراق وانتهى إلى ظهور أول أشكال السلطة وبداية ممصر حضاري جديد.
عصر فجر السلالات
تبلور تطور المجتمع العراقي في الربع الأخير من الألف الرابع ق.م.وبرزت فيه جماعتان رئيستان هما السومريون ومن أطلق عليهم الاكديون في عهود لاحقة. وعلى الرغم من تركز السومريين في المدن الجنوبية مثل اريدو واور في محافظة ذي قار والوركاء في محافظة المثنى، وتركز الاكديين في كيش في محافظة بابل وسبار في محافظة بغداد وبعض المواقع في محافظة الأنبار فقد امتزجت كلتا الجماعتين وتفاعلتا في كل المدن العراقية القديمة. وربما كانت القيادة السياسية للاكديين ثم للسومريين ومن بعدهم للاكديين والسومريين مرة أخرى.
وظهر الاموريون الوافدون عبر الفرات في العراق في الربع الأخير من الألف الثالث ق.م وتعاظم نفوذهم حتى تسلموا القيادة السياسية للبلاد في مطلع الإلف الثاني ق.م. وظهر التخصص الاجتماعي واضحاً في الإنتاج، وظهر أيضاً الترابط العضوي بين أنماط الإنتاج والنظام الاجتماعي. ويعد اختراع السومريين الكتابة في حدود 3000 ق.م بداية للعصور التاريخية في العراق وقد رافق هذا التطور تطور آخر مهم، بل ربما كان أكثر أهمية، هو ظهور السلطة في شكل سلالات ظهرت كل منها في مدينة، ويظهر من دراسة جداول الملوك السومرية ان السلطة (الملوكية) نزلت من السماء إلى الأرض، أول مرة، في كيش قرب بابل غير أنها اندثرت بفعل الطوفان الذي اكتسح الأراضي عدا رجل الطوفان. ثم عادت إلى الظهور ثانية بعد الطوفان في مدينة (كيش)، وعلى يد ملوك هذه السلالة تحققت الوحدة الداخلية في العراق في عصر مبكر (2800 ق.م ) بحدوده الحالية تقريباً.
ومن السلالات السومرية المشهورة سلالة الوركاء الأولى وملكها الخامس كلكامش (2700ق.م). وقد خلدت السلالة وملكها في الملحمة البابلية المشهورة (ملحمة كلكامش).
ومن السلالات السومرية الأخرى سلالة اور الأولى (2650ق.م ). وتكشف آثار هذه المدينة عن تقدم الفنون والثقافة، فمن هذه المدينة وصلت ألينا القيثارة المشهورة، كما تطور استخدام العربة وأدخلت في الأغراض العسكرية فضلاً عن الزراعة والنقل، وآخر سلالات هذا العصر سلالتا لكش واوما (2550).ويعد الملك اور وامكينا صاحب أول إصلاح اجتماعي قانوني في العالم وهو الذي وضع أسس التشريعات القانونية التي ظهرت بعد هذا التاريخ، والى ملك اوما لوكال زاكيزي ترجع الجهود الأولى لتوحيد دويلات بلاد سومر وربما الأرض الواقعة بين الخليج العربي والبحر المتوسط إذ يذكر في كتاباته انه وصل من "البحر السفلي إلى البحر العلوي" وتلقب بلقب ملك سومر. جاء التطور الكبير على يد سرجون الاكدي (2371- 2316ق.م) الذي انتزع السلطة من السومريين في مدينة (كيش) واستطاع بعد فترة قصيرة توحيد دويلات المدن السومرية. وبجهود لاحقة شملت دولته الخليج العربي والأراضي العربية حتى البحر المتوسط وشمالي العراق، حيث كانت مدينة آشور تحتل احد المراكز الإدارية، الاكدية المهمة، وشمالي سوريا وبلاد عيلام في الشرق وحارب الأقوام التي هددت حدودها ومصالحها في آسيا الصغرى ومنطقة (اوان) فظهرت بذلك أول دولة مركزية تضم أراضي واسعة من الوطن العربي وهي المحاولة الأولى للوحدة التي تمت بقيادة العراق.
وأضيفت إليها مناطق أخرى من الوطن العربي إبان حكم حفيده نرام - سين (2291 2255 ق.م) وبقيت تلك الإمبراطورية مزدهرة إلى ان استولى عليها الكوتيون (عقارب الجبل) الذين دام احتلالهم قرابة مائة عام (2211-2120 ق.م) وكانت من أحلك فترات التاريخ لما أصاب البلاد من خراب ودمار على أيديهم.
تحرير العراق
بقي كثير من المدن السومرية خارج سلطة الكويتيين وبخاصة مدينتي لكش والوركاء، واشتهر اوتو حيكال زعيم مدينة الوركاء السومري (2120 ق.م). بتحريره العراق من الاحتلال الكوتي وإلحاق الهزيمة بملك الكوتيين (تريكان) وتحقيق الاستقلال وتأسيس سلالة وطنية في أور اشتهر من ملوكها اورنمو (2113 2069 ق.م) الذي نشطت في عصره حركة العمران وظهرت أول مرة الزقورة في معبد الإله (نتار) في اور. واشتهر أيضاً بتشريعه القوانين، ويعد قانونه المدون بالسومرية أقدم نص قانوني وصل إلينا حتى الآن.

العصر البابلي القديم
أعقب نهاية سلالة أور الثالثة (2006 ق.م) قيام عصر جديد في العراق عرف بالعصر البابلي القديم نسبة إلى مدينة بابل، وكون الاموريون قوام هذا العصر بعد ما ظهروا قوة بشرية وسياسية قوية في وسط العراق وجنوبيه. والظاهر ان دور الاموريين الاجتماعي وتزايد أعدادهم بعد التحاق بقاياهم في الجزيرة العربية بهم كانا عاملين أساسيين في نجاحهم في تأسيس عصر جديد بعد ان عاشوا منذ الألف الثالث ق.م جزءاً من مجتمع العراق القديم إلى جانب السومريين والاكديين. ظهر الاموريون أول الأمر سلالات متفرقة أبرزها سلالتا ايسن ولارسا.
أسس سلالة ايسن اشبي ابرا الاموري (2017 - 1985 ق.م) وبدأ حكمه بتأديب العيلاميين في غربي إيران حالياً في معركة لم يفكروا بعدها في الاعتداء على العراق، وازدهرت في عهد هذه السلالة الثقافة العراقية القديمة (السومرية)  وتطور التشريع الذي اظهر عناية خاصة باستخدام عناصر الإنتاج وأدواته ووسائله ورعاية الأسرة.كما ظهر أول مرة دور لسكان المدن من خلال مجالس الشعب مما يشير إلى تطور في شكل السلطة وجوهرها.
أما سلالة لارسا فقد أسسها الملك الاموري نبلاتم (2025 2005 ق.م) وقد واجهت هي الأخرى الخطر العيلامي القادم من الشرق ثم ظهرت السلالة الثالثة في بابل على يد سومو - ايم (1894ق.م) الاموري زعيم إحدى القبائل الامورية التي التحقت في عصر لاحق بأصولها الامورية القديمة في العراق،واتخذت بابل عاصمة لها.
كما ظهرت مملكة أخرى عرفت بمملكة (اشنونة) التي قادت عدة مدن مثل تل حرمل وخفاجي وتلول الضباعي وشجالي واسمر، وازدهرت المعرفة في هذه المملكة كالعلوم والرياضيات، والقوانين أيضاً خصوصاً تلك التي تتعلق بتحديد أسعار البضائع الأساسية فضلاً عن أمور المجتمع. ومن بين هذه السلالات كان الازدهار السياسي من نصيب سلالة بابل الأولى التي اتجهت في عصر ملكها السادس حمورابي (1793- 1751 ق.م ) إلى توحيد العراق في إطار سلطة مركزية واحدة وإخضاع الملوك المعاصرين كافة.
اتجه حمورابي إلى العناية بالنواحي الإدارية والاجتماعية والثقافية فاتبع نظاماً مركزياً في الإدارة ربط بموجبه حكام المناطق به وفصل في سلطاتهم بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية وحول وظائفهم إلى وظائف إدارية، واهتم بالبريد وسرعة وصوله بين العاصمة والمدن الأخرى، ونظم المعابد وحدد صلاحيات الكهنة وألغى محاكمهم وانشأ المدارس إضافة إلى دور العلم والمعرفة في المعابد، وبدأت أول مرة حركة العناية بتراث العراق القديم وتدوينه وأعاد كتابة الملاحم السومرية.
واهتم بالجيش واتبع نظام التجنيد الإجباري وسن قانوناً موحداً للبلاد يبدو انه اعتمد التشريعات القديمة ولكن برؤية عصره ويهدف إلى توحيد المجتمع وتعزيز هيمنة الدولة.
تعرضت الدولة البابلية لأقوام غازية، فقد واجهت في أن واحد ضعف الملوك الذين جاءوا بعد حمورابي وانقسام الدولة إلى مملكتين ضمت الأولى جنوبي العراق والخليج وعرفت بمملكة القطر البحري أو سلالة بابل الثانية بقيادة ايلوم. وثارت مدن لارسا واور والوركاء وواجهت الدولة البابلية أخطاراً خارجية تمثلت بالغزو الحثي والغزو الكشي والغزو الخوري وقد استولى الحثيون على بابل ولم يبقوا فيها طويلاً إذ سرعان ما تركوها للكشيين. كما غزا الخوريون منطقة كركوك واحتلوها زهاء قرن من الزمن. يتسم العصر البابلي بقوة السلطة المركزية وانفصالها عن المعبد إذ اختص الملك ومعاونوه بشؤون المجتمع. وظهرت مجالس المدن التي اختصت بالقضايا الكبرى فضلاً عن المشاركة في الحكم، وتطورت تنظيمات الجيش وكان الملك يرأس الجيش المؤلف من المجندين إضافة إلى الجيش الثابت. وتطورت مكانة المرأة فشاركت في الجيش ومارست التجارة ومختلف المهن الأخرى. ويتسم هذا العصر أيضاً بظهور القوانين، موحدة وشاملة، ويعكس الحرص على إعطائها طابعاً مقدساً أهميتها في تنظيم المجتمع وسيادة العدل الاجتماعي في الدولة وفي نشوء النظام العام المعبر عن وحدة المجتمع في الوقت نفسه.
وتتجلى قيمة العصر البابلي بعاصمته بابل ذات الموقع الوسط بين مراكز تجارية وزراعية متعددة. واهتم البابليون بالري، وازدهرت الثقافة والأدب والفنون، فإلى هذا العصر تعود أقدم نسخة من ملحمة كلكامش وقصة الطوفان وقصة الخليقة البابلية وتعطي منحوتات العصر فكرة عن النحت الذي اتسم بالواقعية.

الاحتلال الكشي
تعرض العراق للاحتلال الكشي (1595-1157ق.م )وهم قوم أجانب من أواسط جبال زاجروس تفلفلوا في المجتمع البابلي واستغلوا فرصة سقوط بابل على يد الحثيين (1595 ق.م) فغزوا الدولة واتخذوا من (دور كوريكا لزو) عاصمة لهم. وكانت لهم صلات بمصر واتسم عصرهم باستخدام الحصان في النقل والعربات في الحروب لذلك اهتموا بالخيل وأنسابها. وواجهوا غزو العيلاميين وتهديدات الاشوريين معا إلى ان استطاع العيلاميون القضاء على الحكم الكشي في حدود (1157ق.م) ودمروا بابل ومدناً عراقية أخرى وسلبوا ممتلكاتها بما في ذلك مسلة النصر ومسلة حمورابي أيضاً وتمثال مردوخ كبير الإلهة البابلية.

النضال ضد الاحتلال
اتجه البابليون إلى الأدب وإحياء التراث واستثارة الهمم والتجارة عندما خضع المجتمع للاحتلال. والراجح أنهم أفادوا من ذلك في تعزيز قدراتهم ثم القيام بالثورة بقيادة زعيم من مدينة ايسن اسمه (مردوخ. كابت. اخبشو) وطرد الحامية العيلامية وإقامة سلالة وطنية في ايسن (1156 -1025ق.م) ومن ابرز ملوكها نبوخذ نصر الأول (1124- 11.3 ق.م) الذي أعاد ثقة الشعب بنفسه ورفع هيبة الحكم ووجه جهوده إلى محاربة العيلاميين فباغتهم في شهر تموز القائظ إذ لم يكونوا يتوقعون ذلك والحق بهم هزيمة كبيرة.
وكان العصر الذي تلا نبوخذ نصر يحفل بالمتغيرات. فالأشوريون ظهروا قوة مؤثرة في شمالي وادي الرافدين في 1200 ق.م وازدادت، في الوقت نفسه، أعداد القبائل الآرامية في بلاد بابل وازدادت ضغوطها السياسية. وعندما نجر الآراميون في انتزاع السلطة في بابل كان واضحاًَ ان فترة من الصراع لحسم مسألة قيادة العراق قد بدأت.

الأشوريون
استوطن الأشوريون القسم الشمالي من العراق الذي عرف في النصوص المسمارية بـ «بلاد أشور». وهو كبقية أقسام العراق شهد حياة إنسان العصر الحجري القديم في وقت مبكر قبل قسمه الجنوبي، ونشأت أيضاً القرى الزراعية في العصر الحجري الحديث، غير ان طبيعة المنطقة في مناخها وتضاريسها ساعدت على بقاء الجماعات البشرية مبعثرة وظهر اثر التطور الحضاري في جنوب العراق واضحاً في بلاد أشور خصوصاً بعد ما أصبحوا جزءاً منها سياسياً وثقافياً منذ زمن لوكال زاكيزي وسرجون الاكدي. وواجهت بلاد أشور الأخطار التي واجهها السومريون والاكديون وانضوت المنطقة ثانية في الوحدة التي حققها حمورابي، واسهم عنف التحديات المحيطة ببلاد أشور من الشمال والشرق في خلق مجتمع يعلق أهمية على الروح الحربية التي منحت المجتمع قادة عسكريين عظاماً في فترة بروز الأشوريين (1521- 911 ق.م) إحدى القوى الرئيسة في المنطقة إلى جانب الكشيين والمصريين بعد سقوط بابل دون ان ينسوا دورهم في توحيد بلاد وادي الرافدين والدفاع عنها من القوى المحتلة أو التي تسعى إلى احتلالها، وقد عزن ت هذه الوحدة التمازج البشري في العراق وعممت المبتكرات الحضارية. وفي الحقبة اللاحقة (911-612 ق.م) ازدهر تاريخ الأشوريين السياسي والثقافي والاقتصادي وظهرت علي مسرح الأحداث أول إمبراطورية عندما نجر الأشوريون في ضم معظم أقاليم الشرق الأدنى القديم، إمبراطورية اشتهرت بإبداعها الحضاري وشهدت تطور المدن الأشورية من مثل أشور ونينوى وكالر (نمرود) ودور شروكين (خرسباد) بقصورها وزقوراتها وأسوارها وما حوت من قطع فنية رائعة فضلاًَ عن الأعمال العسكرية والثقافية ولاسيما تلك التي حوتها مكتبة أشور بانيبال وكانت سجلاً للحياة العراقية القديمة. لقد نجح الأشوريون في قيادة العراق في عصر القوى الخارجية الطامعة كالكيشيين والحثيين والميتانيين إلى جانب الدولة المصرية. غير ان هذا الوضع لم يستمر، فهذه القوى بدأت تختفي عن مسرح الأحداث منذ مطلع الألف الأول ق. م وبدأت منطقة الشرق الأدنى القديم تشهد تغيراً في الخريطة البشرية ترتب عليه تغير في القوى السياسية الفاعلة في المنطقة. فعلى المستوى الداخلي بدأت موجات الآراميين تضغط على الحدود الغربية منطلقة من دويلاتها المتعددة في بلاد الشام إلى جانب انتشار القبائل الكلدية في جنوب العراق وتأسيسها سلالات محلية كانت تطمع في السيطرة على بابل. أما على المستوى الخارجي فقد ازدادت حوادث القبائل الجبلية على الحدود الشمالية والشمالية الشرقية من خلال دولها في اوراتو وميديا، وكانت دولة عيلام في غربي إيران تمارس تحريضها في ذات الوقت الذي كان فيه اليهود في فلسطين يمارسون الشغب على الدولة الأشورية مستغلين تنافسها مع الدولة المصرية.
تكشف وثائق العصر الآشوري الحديث عن نشاط عسكري كان غرضه تأمين حدود الدولة والقضاء على معارضيها كما تكشف، في الوقت نفسه، عن نشاط حضاري ثقافي وإداري وسياسي واقتصادي واسع النطاق قاده ملوك عظام غير ان الفترة المتأخرة بعد حكم أشور بانيبال تبدو غامضة في المصادر الآشورية، والراجح أنها شهدت ملوكاً ضعفاء على المستوى الداخلي ومؤامرات واسعة محلية ومتغيرات حادة في الأوضاع الخارجية في الوقت الذي ظهر فيه زعيم كلدي قوي هو نابو-بولاصر الذي نصب نفسه ملكاً على بابل سنة 626ق.م وبسط نفوذه على العراق بما فيه الدولة الآشورية.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق