البروفيسور كاظم كاظم عبدالحسين عباس
قراءة في الانعطافة التاريخية للسياسة السعودية
فمن يركن إلى اختلاف جذري في شخصية الملك الراحل عبد الله رحمه الله وبين شخصية خلفه الملك سلمان عليه أن يتذكر بأن الملك عبد الله قد مارس القوة العسكرية ضمن إطار درع الجزيرة عندما قامت المملكة بالتدخل في البحرين. وساهمت المملكة في حرب الخليج الثانية ضد العراق ولعبت أيضاً دوراً معروفاً في حرب احتلال العراق. غير أن المملكة مع وقائع هذه الأدوار لم تقدم نفسها على أنها لاعب دولي في التحالفات الدولية ولا قطباً من أقطاب الاستقطاب كما حصل الآن والذي تزامن مع استلام الملك سلمان السلطة وولده الأمير محمد الدفاع وبعد موت الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية الذي ترك للجبير قبل موته تصريحاً شهيراً مفاده: أن المملكة ليست طالبة حروب ولكنها ستكون لها إذا أجبرت عليها.
لعل المتابع الفاهم لمسارات السياسة السعودية يدرك أنها تقدم نفسها في خطين:
الأول: هو أنها قائدة العالم الإسلامي وراعية أقدس مقدساته.
الثاني: عروبية منهجها ومواقفها.
وبغض النظر عن اختلاف العالم في التسليم المطلق بكلا الخطين كثوابت مطلقة أو أن السياسة السعودية قد زاغت عنهما في هذا النموذج أو ذاك غير أن ما جرى بعد أحداث ما يسمى بالربيع العربي وقبله احتلال العراق وما آلت إليه تداعيات وأحداث هذا الاحتلال قد وضعا خطي سياسة المملكة تحت مطارق متعددة المصادر وعرضتها لتهديد حقيقي صار لزاماً على السعودية أن تتحرك بردود أفعال غير تقليدية لاحتواء التأثيرات قبل أن يقوض وجودها وأمنها عموماً وأمن المنظومة الخليجية برمته.
فالربيع العربي فرض على المملكة تدخلاً ظاهراً وغير ظاهر في الثورة السورية وما آلت إليه من تعقيدات أخطرها التدخل الإيراني السافر لصالح النظام ودفع إيران لمليشيات حزب الله اللبناني للتدخل وتوظيف الساحة العراقية التي تهيمن عليها إيران كما هو معروف وخاصة بعد نهاية عام ٢٠١١م وانسحاب الحجم الأكبر من القوات الأمريكية من العراق لتقديم مختلف أنواع الإسناد العسكري والمالي والميليشياوي لإدامة بقاء نظام الأسد. ولعل غزو روسيا المتحالفة مع إيران لسوريا وما فرضه من تغييرات نوعية ومفصلية ليس في سوريا وحدها بل في المنطقة برمتها قد وضع السعودية في قلب الحدث من زاويتيه العربية لأن سوريا والعراق قطران عربيان صارت عروبتهما تحت سيوف الفرس وأعوانهم وإسلامياً لأن الطائفية الإيرانية المجرمة وما فرضته من إرهاب وتصفيات مذهبية وإنتاج للإرهاب المخل بكل الوسطية الإسلامية التي قدمت الثقافة الدينية السعودية نفسها للعالم من خلالها. وصار أمام المملكة خيار البقاء حملاً وديعاً وحمامة سلام بيضاء يمكن أن ينتهي بها إلى الفناء أو أن تنقلب على نفسها وتتحول إلى نمر من نمور الاستقطابات والتحالفات.
إن الجوار الجغرافي للسعودية والأردن مع أقطار المشرق العربي التي غزتها الطائفية الصفوية الفارسية الإيرانية وجاءت روسيا لتساندها بطريقة أو بأخرى يجعل السعودية في وضع حرج جداً حيث أن المد الصفوي الفارسي قد تجاوز حدود ممكنات الاحتواء وعبر الخطوط الحمراء وبدأ عملياً يضرب في القلب السعودي خاصة والخليجي عامة. وحادثتي التدافع في مكة بموسم الحج الأخير وقضية نمر النمر نموذجان لبداية الخرق والحرائق في الداخل السعودي. لقد تحول الحال والخيار أمامها إلى مسألة حياة أو موت وصار تغيير المسار السعودي برمته أمراً لا مناص منه.
ويبدو أن الفشل الأمريكي في العراق قد قاد الإدارة الأمريكية إلى فشل في تحقيق التوازن الذي اعتادت على التخفي وراءه بين طهران وجدة وطفح الميل الأمريكي لصالح إيران إن لم نقل أن تعاون أمريكا الوثيق سراً مع طهران قد افتضح أمره بسبب الفعاليات التي لم يحسب لها أحد حساب عندما اتفقت أطراف غزو العراق على غزوه ألا وهي فعاليات المقاومة لعراقية المسلحة. لقد وجدت المملكة نفسها أمام خيار البقاء في مقصورة الحجر الأمريكي وبين أن تستبق الكارثة القادمة لها من كل الاتجاهات وتشبك نفسها مع باريس وموسكو وبكين بعلاقات عسكرية وتسليحية واقتصادية جعلتها في موضع قوة مضافة ومرونة مبادرات وحراك سياسي غير مسبوق.
ولعل أسوأ ما فعلته أميركا وبريطانيا مؤخراً هو وضع المملكة في قفص اتهام إنتاج الإرهاب!!! وهكذا توجه إعلامي وسياسي يصب في خانة إسناد المنهج الصفوي الفارسي ويضع المملكة في مداخل الخروج من قمتها التي تتربع عليها في قيادة العالم الإسلامي روحياً على الأقل. وعلى ذلك فإن المملكة صارت ملزمة على أن تؤسس حلفاً عربياً - إسلامياً لتؤكد هويتها القومية وبراءتها من الإرهاب الذي تدعي أميركا أنها تحاربه من جهة ومن جهة أخرى صار التحالف الإسلامي منصة لتركيا التي لا زالت ترى في المملكة أرض مقدسات الإسلام ونظامها راعيها الأمين ومنفذاً لها للإبقاء على مسارات دعمها لبعض فصائل الثورة السورية.
اللقاء الضمني والمعلن التركي السعودي أوجد حلقة الوصل مع التحالف الدولي ووضع الأمريكان في زاوية حرجة. فصارت مشاركة السعودية في إسناد الدور التركي الساعي لإسقاط الأسد أمراً غير قابل للرفض لأنه موضوع في قالب محاربة داعش!!!.
السعودية الآن تمارس الدفاع عن النفس من خارج الحدود لأنها أدركت أنها ساقطة عسكرياً بيد إيران حيث كانت مطوقة عملياً من كل الجهات كما أنها أدركت ووصلتها صرخات الأحرار بأن رأس الأفعى الفارسية السامة في العراق وفي بلاد الشام والأهم من هذا كله أن السعودية الآن تقود معها عرب آخرين لأول مرة:
فصار للعرب دور في الأحداث وصناعتها وفي الاستقطابات الدولية التي تشتغل على أرضنا وكنا سلبيين تماماً في التعاطي معها.
وصار للسلاح وترسانته الهائلة التي كنا نطالب باستخدامها ولثروات العرب ومنها النفط دور في صناعة الأحداث بعد قرابة ١٣ عام من احتلال العراق وتغول الأرنب الفارسي وتماديه في العدوان على العرب وأرضهم ومقدراتهم.
وستجد المملكة ومن معها من العرب أن لها ذراع نصرة على الأرض من ثوار سوريا قادر على أن يفرش لها مستلزمات الفلاح والنصر.
وفي العراق سيزلزل أحرار المقاومة الوطنية والقومية والإسلامية الأرض من تحت أقدام العجم وجراءهم وعبيدهم فور بدء المنازلة التي توفر لهم الطمأنينة إلى سماء محروسة عربياً وإسلامياً ومنهج سياسي دولي غير الذي ساد قبل وبعد احتلال العراق وأن يكون التحالف العربي الإسلامي مدركاً ومتشبثاً بإنهاء الطائفية في العراق وإتاحة الفرصة لشعب العراق لتشكيل نظام ديمقراطي تعددي تحت ظل دستور يحمي وحدة الشعب والوطن ويعيده إلى أحضان الأمة.
العالم كله يرى الآن عرباً غير الذين كانوا
وعلى شعبنا أن ينظر بعين التفهم والمساندة لأن ما يمكن أن ينتج عن الحلف الذي تقوده السعودية الآن دحر للطائفية الفارسية الصفوية وإعادة الأمن والاستقرار إلى المنطقة حتى ولو بعد المرور بمحنة وتضحيات. لقد تحركت المياه التي ظلت ساكنة طويلاً وصارت شلالاً قد يسقي ما حل الأمة بعد أن طال زمن الجفاف وكان لمقاومة العراق وثوار سوريا دورهم الأغر في تحقيق الكثير على طريق هذا الوضع العربي الواعد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق