الانتفاضة السلمية لم تعد
نافعة
الذين يصرون على التمسك بالنهج السلمي للانتفاضة لتحقيق الاصلاح لم يجنوا طيلة هذه الشهور سوى الخيبة تلو الاخرى، فاصلاحات رئيس الحكومة حيدر العبادي، المتعلقة بإقالة نواب رئيس الجمهورية ونواب رئيس الوزراء وتقليص حمايات عدد من المسؤولين وتعين وزراء تكنوقراط، تعد إصلاحات متواضعة جدا، ان لم تكن تافهة، اذا ما جرت مقارنتها بالاصلاحات التي طالبت بها الانتفاضة من قبيل، فصل الدين عن الدولة والغاء المحاصصة الطائفية وتعديل الدستور وتطهير القضاء ومحاكمة رؤوس الفساد
بمعنى اخر اكثر وضوحا وصراحة، فان استبعاد النضال المسلح من عقول قيادة الانتفاضة ولجانها التنسيقية، هو الذي كان السبب وراء فشل هذه الانتفاضة والانتفاضات التي سبقتها في تحقيق اهدافها، سواء المطلبية منها كتامين الخدمات، او السياسية كالغاء نظام المحاصصة وانهاء الفساد، وهو الذي دفع حكومة العبادي الى الاستقواء والتهديد باستخدام القوة العسكرية لاجبار المقتحمين على اخلاء المنطقة الخضراء، ثم الانتقال الى الهجوم ومباشرة عمليات الاعتقال لناشطي الانتفاضة، وهو ايضا الذي سيسهل عليها استخدام القوة بعنف اذا تكرر هذا الفعل مرة ثانية.
هذه هي الحقيقة واي ادعاء اخر، او تحميل مسؤولية الفشل الى مقتدى الصدر لوحده دون غيره ينطوي على ظلم واجحاف، على الرغم من دور السيد في اجبار المتظاهرين على الانسحاب من المنطقة الخضراء. حيث لقيادة الانتفاضة ولجانها التنسيقية حصة في المسؤولية، بل ان كاتب هذه السطور، يُحمّل قادة الانتفاضة النصيب الاكبر فيما حدث، فبالاضافة الى اصرارهم على التمسك بالنهج السلمي للابد، فانهم قبلوا طواعية، وعن طيب خاطر بمقتدى الصدر قائدا لهم وممثلا عنهم، بل سلموا رقابهم له، وفوضوه بالتحكم بمصيرهم، في حين كان بالامكان إقصائه، كونه جزءاً من العملية السياسية، كما اقصت الانتفاضة في اوقات سابقة اطراف اخرى حاولت ركوب الموجة، او على الاقل التعامل معه كطرف وليس قائدا وممثلا عنها، ولو اصرت هذه القيادات على ذلك، لما استطاع السيد ولا تياره التصرف على هواه، او حسب مزاجه او وفق اجندته الخاصة.
كنا نامل بان تستفيد الانتفاضة من هذه الاخطاء وتعيد النظر في حساباتها وتقييم مواقفها وتصحح الية عملها ووسائل نضالها لتستمر بعدها مسيرة الانتفاضة بالاتجاه الصحيح هذه المرة. اي تاخذ بمقولة رب ضارة نافعة. لكن شيئا من هذا القبيل لم يحدث، حيث لازالت قيادة الانتفاضة، تعلق الامال على مقتدى وتياره، ولازالت ايضا تراهن على الحكومة والعملية السياسية، والانكى من ذلك، وعلى الرغم من نية الحكومة المعلنة، على استخدام القوة ضد الانتفاضة متى رأت ذلك ضروريا، مازالت هذه القيادات مصره على نهجها السلمي، بل وترفض جميع الدعوات لاعتماد الكفاح المسلح الى جانب الوسائل السلمية، وإتهام اصحابها بنعوت واوصاف مشينة، من قبيل مخرب وهدام ومشجع على سفك دماء الابرياء الى اخر هذه الترهات، في حين ان اللجوء الى الكفاح الشعبي المسلح، او الانتفاضة المسلحة، في حال عجزت الوسائل السلمية عن تحقيق مطالبها، يعتبر حقاً مشروعاً لا ينبغي الخوف منه او الخشية من نتائجه.
ولكن هذا ليس كل شيء ، فبدلا من تصحيح المسار، انتقلت الى استخدام وسيلة بالية ثبت فشلها على امل ان تجد فيها ضالتها. والمقصود هنا وسيلة الانتخابات، حيث دعا البعض من هذه القيادات الى اجراء انتخابات مبكرة، تستبعد من خلالها كل هذه الوجوه الكالحة، وتاتي بحكومة وطنية، لكن نسى اصحاب هذه الدعوات، او تناسوا، بان الانتخابات ليست سوى كذبة كبيرة لم تعد تنطلي على نصف عاقل، او على الاقل، اصبح من الصعب الوثوق بها كوسيلة للتغيير، كون هذه الانتخابات، ان كانت مبكرة او اتت في حينها او تاخرت عن موعدها، ستاتي بنفس الوجوه الكالحة حتما، شاء الناخب ام ابى. فقانون الانتخابات قد صمم على مقاسات هؤلاء اللصوص، واذا حدث وجرى تعديل لهذا القانون، فان صناديق الاقتراع لن تتحكم بالنتائج، وانما الذي يتحكم بها هو المحتل الامريكي وتابعه الايراني، ولنا في نتائج الانتخابات الثلاثة التي حدثت بالعراق خير دليل على ذلك.
فأبراهيم الجعفري، مرشح الكتلة الفائزة في انتخابات عام 2005 لمنصب رئيس الوزراء أُقصي بالعصا الامريكية لعدم رضى الاحزاب الكردية عليه، واياد علاوي الفائز بانتخابات 2010 واجه نفس المصير المهين لعدم رضى ملالي طهران عنه، اما نوري المالكي، فكان إقصائه فضيحة مهينة للانتخابات وصناديقها واصابعها البنفسجية، فبعد فوزه الساحق والصريح في الانتخابات الاخيرة في عام 2014 اقصته امريكا بعصاها الغليظة وبطريقة مذلة، وعينت بدلاً عنه حيدر العبادي الذي حاز على 3000 صوت، وهذا الرقم بعيد عن ما يسمونه بالعتبة الانتخابية للفوز بمقعد نائب في البرلمان وهي ثلاثون الف صوت... اليست هذه هي الحقيقة؟.. ام غيرها؟ ايها الداعون للانتخابات المبكرة.
ولكي لا نطيل اكثر، وباختصارشديد، فان على قيادة الانتفاضة وابنائها، ان تلغي من حساباتها اية مراهنة على الحكومة، او البرلمان للقيام باي اصلاح جدي، وتشطب من ذاكرتها اية فكرة او مقترح لاصلاح العملية السياسية من داخلها، وان تضع في سلة المهملات جميع المقترحات من قبيل الانتخابات المبكرة وحكومات التكنوقراط ، والاحتكام الى الدستور، او القضاء أو تشريعات مجلس النواب، لان كل هذه المفردات نتاج عملية الاحتلال السياسية.
بالمقابل فان على قادة الانتفاضة إعادة النظر في الافكار والمفاهيم الخاطئة التي تستبعد اية وسيلة كفاحية لإنتزاع الحقوق المهضومة غير الطريق السلمي، فالكفاح المسلح، اصبح ضرورة ملحة لانتزاع الحقوق، خاصة بعد الفشل الذريع الذي واجهته الانتفاضات المتعاقبة على مدى خمسة سنين في الحصول على حقوقها عبر الوسائل السلمية. وقد نجد نموذجا عن هذا الفشل في عملية الاقتحام السلمية للمنطقة الخضراء. فبعد هروب اعضاء مجلس النواب كالجرذان ولجوء اعضاء الحكومة للسفارة الامريكية كالنعام. اضطر المقتحمون الى الانسحاب امام تهديدات الحكومة باستخدام القوة، بسبب العجز عن مواجهة القوة بالقوة.
ان اعتماد الكفاح المسلح، الى جانب وسائل النضال الاخرى ليس ابتكاراً عراقياً، فجميع شعوب الارض لجأت اليه بعد ان عجزت عن انتزاع حقوقها بالطرق السلمية، وهذه واحدة من سنن الانتفاضات الشعبية، فاما ان تتخذ طريق النضال السلمي اوالسياسي، واما طريق الكفاح المسلح، وان اختيار واحداً منها لا يجري اعتباطا او مزاجيا، وانما تحدده طبيعة الصراع فيما اذا كان صراعا تناحرياً او صراعاً ثانوياً، ففي الحالة الاولى يتقدم النضال المسلح على الوسائل النضالية الاخرى، وفي الحالة الثانية، يتقدم النضال السياسي والسلمي على النضال المسلح، واما في حالتنا هذه، فصراع الحكومة والاحزاب الحاكمة مع الانتفاضة هو صراع تناحري وصراع وجود، لا يحل سلميا على الاطلاق، وهذا ما يفسر رفض الحكومة التسليم بمطالب الانتفاضة، لان الاستجابة لها ستعني سقوط الحكومة ووضع اعضائها واعضاء البرلمان خلف القضبان.
ترى هل هناك امكانية لتحقيق هذا الطموح؟
نعم، وبكل تاكيد، فالتراجع الذي حدث، لا يعني نهاية المطاف، ولا يعني ايضا أن قيادة الانتفاضة او لجانها التنسيقية قد خلت من آخرين لهم باع طويل في الثورات الشعبية واطلاع واسع فيما يخص تجارب الشعوب. مثلما لديهم ايمان قوي بتعدد وسائل النضال، بما فيها الكفاح المسلح، كما ان لديهم القدرة على تصحيح مسار الانتفاضة والعودة بها الى جادة الصواب، وقد نجد ارهاصات هذا التوجه في ظهور تيار داخل الانتفاضة يرفض التعامل مع اي طرف يرتبط بالعملية السياسية، ولا يقبل بالمماطلة والتسويف او انصاف الحلول. وأزعم ان الغلبة ستكون لهذا التيار على المدى المنظور، فأطراف عملية الاحتلال السياسية قد وفرت، من جهة، كل المبررات لانتشار هذه الافكار الثورية بسبب سقوطها السياسي والاخلاقي المدوي، واصرارها على مواصلة العبث بشؤون البلاد والعباد، وعدم الكف عن ارتكاب الجرائم والسرقات. ومن جهة اخرى اصرار هذه الاحزاب الحاكمة على رفض اي إصلاح يمس ولو شعرة من راسها، او يهدد مكسبا من مكاسبها، او يهز ركنا من مواقعها.
اذن، لاتزال المعركة مستمرة، بين معسكر الانتفاضة التي تسعى الى تحقيق مطالبها، وبين معسكر الحكومة التي تتحايل على هذه المطالب، ومن يعتقد بان الانتفاضة قد استسلمت فهو في ضلالٍ مبين، اذ انها ستستمر وتواصل كفاحها واذا فشلت، فانها ستلد انتفاضة اخرى واخرى.
هنا لن نجد امامنا من وسيلة للمساهمة في هذه المعركة حتى تحقق انتصارها سوى التوجه الى المنتفضين، بأن لا يثقوا باي طرف من اطراف العملية السياسية بما فيهم مقتدى الصدر وتياره، وان يوحدوا صفوفهم ويقوموا بجهد لتعبئة عموم الناس وحشدهم، تمهيدا للقيام بالانتفاضة الكبرى. وفي هذا الصدد، فان من بين اهم الاسس التي تساعد في نجاح اية انتفاضة او ثورة، من هذا الوزن، وبصرف النظرعن جنسيتها، او الشعوب التي تقوم بها والاحزاب او القوى التي تقودها والاهداف التي تسعى الى تحقيقها، هي وجود قيادة مشتركة وموحدة، لديها برنامج سياسي مشترك، وآلية تستند اليها وادوات نضالية فاعلة تعتمد عليها، ورؤيه واضحة، تنير طريقها، ومعرفة دقيقة لطبيعة معسكر الخصم، والقوى التي تدعمه وتسانده، فهي من المستلزمات التي تساعد على مجابهة الخصم بالقوة المطلوبة وبالزمان والمكان المناسبين.
ومن دون هذه الاسس والثوابت، فان تحقيق النصر لاية انتفاضة او ثورة يصبح امراً صبعاً ان لم يكن مستحيلا. ولو توفرت نصف هذه الشروط في انتفاضتنا الشعبية لما تمكن مقتدى الصدر ولا تياره ولا اية جهة، مهما علا شانها او مكانتها، من التحكم بمصير الانتفاضة، والحاق الضرر بها، ولا تمكنت الحكومة ايضا، ولا اجهزتها القمعية وميليشياتها المسلحة بالمساس بالمنتفضين او استخدام القوة ضدهم، وانما العكس هو الصحيح حيث بإمكان الانتفاضة ان تهزم اعدائها اذا لم يستجيبوا لمطالبها.
ختاما، فان الإصرار على سلمية الانتفاضة مهما حدث، سيحولها في نهاية المطاف، الى مجرد تظاهرات سرعان ما تخف حدتها وتنتهي مع مرور الوقت وهذه حقيقة من الصعب انكارها او تجاهلها او الاستهانة بها وهنا بيت القصيد ومربط الفرس.
هل نحن على موعد مع الانتفاضة الكبرى
نعم بكل تاكيد
عوني القلمجي
14/5/2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق