الأحد، 7 أبريل 2024

البَعْثُ ومُقوِّمات رِسالَةُ الأُمَّةِ الخَالِدةِ / بقلم ناصر الحريري

 

البَعْثُ ومُقوِّمات رِسالَةُ الأُمَّةِ الخَالِدةِ

ناصر الحريري

 

"الرسالة العربية إيمانٌ قَبْلَ كُلِّ شيء، ولا يَعِيبُها هذا أو يُنْقِصُ من قَدْرِهَا، فالحقيقةُ العميقةُ الراهنةُ هي أنَّ الإيمانَ يسبقُ المعرفةَ الواضحةَ. وإنَّ من الأَشياءِ ما هو بَديهِي لا يَحتاجُ إِلى بَراهينَ ودِراسات، إِنَّه يَدْخُلُ القَلبَ ويَمْتَلكُ العَقْلَ دُفعَةُ واحِدَةً."

القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق

 

ما زال شعار حزب البعث العربي الاشتراكي، وسيبقى، الميزة الفريدة التي تميزه عن بقية الأحزاب المنتشرة على امتداد الوطن العربي، معبراً من خلاله عن استراتيجية مبكرة ومتقدمة في فهم الواقع العربي. فقد نص المبدأ الثالث من المبادئ الأساسية لدستور الحزب، الذي أقره المؤتمر التأسيسي في السابع من نيسان عام 1947م، على:

(أنَّ للأمةِ العربيةِ رسالةٌ خالدةٌ، تظهرُ بأشكالٍ متجددةٍ ومتكاملةٍ في مراحلِ التاريخ، وتَرمي إلى تَجديدِ القِيمِ الإنسانيةِ، وحفزِ التَّقدمِ البشري، وتَنميةِ الانسجامِ بينَ الأُمم).

 

الا ان هذه الرسالة الخالدة لا تأتي تلقائياً او كتحصيل حاصل، وانما لها مقومات، وشروط، وسمات لابد وان تتوفر كي تبقى خالدة تحملها الامة عبر الاجيال، فما هي هذه المقومات والسمات ؟

 

الرسالة الخالدة نابِعة من صُلب الواقع

تحدث القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق عن ذلك بكل وضوح وشفافية حين قال: "شعار البعث العربي لا يرمز إلى أشياء مقبلة بعيدة عن الواقع، بل يهدف في الدرجة الأولى إلى تلبية حاجات الحاضر وضروراته، وهو يعني أن الأمة العربية واحدة، فلا نعترف بهذه التجزئة المصطنعة العارضة. وإننا نسعى إلى تحقيق هذه الوحدة ليس في الأرض فحسب بل أيضاً في الروح والاتجاه."

 

مضمون الرسالة الخالدة :

لقد حدد دستور البعث مضمون الرسالة الخالدة في نقطتين:

أولاً: الحرية ، فالاستعمار وكل ما يمت له بصلة، عمل إجرامي يكافحه العرب بجميع الوسائل الممكنة، لذا فقد وضع الحزب الحرية احد اهدافه الاستراتيجية الثلاثة، وهي تشمل تحرر الامة من الاستعمار والهيمنة، وتحرير الفرد من الدكتاتورية والظلم والاضطهاد والاستغلال.  واكد على ان العرب في نزوعهم الى الحرية يسعون ضمن إمكاناتهم المادية والمعنوية لمساعدة جميع الشعوب المناضلة في سبيل حريتها.

ثانياً: إن الإنسان مجموع متضامن في مصلحته، مشترك في قيمته وحضارته، فالعرب يتغذون من الحضارة العالمية ويغذونها، ويمدون يد الإخاء إلى الأمم الأخرى، ويتعاونون معها على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع الشعوب الرفاهية والسلام والسمو في الخلق والروح. ومن هنا فان المعاصَرة والتفاعل الحي مع روح العصر وشعوب العالم هي سمة اساسية لرسالتنا الخالدة.

إن مفهوم الرسالة الخالدة التي يحملها البعث ذو محتوى إنساني تقدمي، ودعوة للتحرر والقضاء على التخلف، وإقامة حياة عربية تستفيد من التطور الحضاري الإنساني، وإلى جانب ذلك النضال ضد الاستعمار في أي مكان من

 

 

 العالم، ومساندة حركات التحرر العالمي، والمشاركة في تحقيق التقدم والرفاهية لكل الانسانية.

إنه نضال من أجل بناء عالم ينتفي منه الاضطهاد والظلم والاستغلال، كما تنتفي منه الحروب، ويسوده السلام.

 

الرسالة هي ان لا تتنازل الأمة عن مكانتِها بين الأمم

ونجد ذلك جلياً في كتابات القائد المؤسس حين يقول:

 " الرسالة الخالدة، القصد منها أن هذه الأمة لا تعترف بواقعها السيء وموقفها المنفعل ولا تتنازل عن مرتبتها الأصلية بين الأمم، بل تصر على إنها لا تزال هي هي في جوهرها، تلك الأمة التي بلغت في أزمان متعددة مختلفة من التاريخ درجة تبليغ رسالتها، فهي إذن بصلتها ببعضها وبماضيها لا تزال واحدة ولا تزال فيها الكفاءة لاسترجاع تلك المرتبة التي فقدتها مؤقتاً."

خلود الرسالة مشروط بالتطوير الخلاّق المُبدِع

تتميز رسالة البعث الخالدة بعراقتها، وتطويرها الخلاق المبدع لشتى مجالات الفكر الإنساني من فلسفة وعلوم وآداب، وبدور الأمة الحضاري التطبيقي مع أمم الأرض، وقد تجلت في الدعوة إلى الحياد الإيجابي، وهو ما أثبت الهوية التقدمية لفكر الحزب، حيث استطاع من خلال الممارسة أن يُسقط عن فكرة الرسالة الطابع الغامض او الفكري المحض، ويحولها إلى واقع وممارسة نضالية يومية، كما تجلت في التفاعل مع الحضارات الأخرى تفاعلاً خصباً، لأنها تمتلك إرثاً حضارياً قومياً، تُعطي وتُقدم في نتاج العقل البشري، وتُخضع المعطيات العملية لواقعها وحياتها وتبلورها حسب متطلبات العصر وتطوراته.

رسالتنا الخالدة هي ان نكون سادة مصيرنا وصانعو قدرنا

إن ما أنتجه الوعي العربي من قيم وفكر وما قامت به هذه الأمة على مسرح الحياة من أعمال إنسانية أدت إلى تطور الكثير من قوانين الحياة ومستلزمات

 

 الحضارة عبر العصور.

 

 كما أن النضال اليومي لشعبنا العربي ضد الامبريالية والصهيونية وأدواتها، من أجل تحرير أرضنا العربية المحتلة، جعلها أمة ذات رسالة خالدة، وهو ما يجعلها أمة قادرة على صنع مصيرها ومستقبلها، وقد عبر عن ذلك القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق قائلاً: " نحن سادة مصيرنا وصانعو قدرنا ندرك إدراكاً عميقاً أن الأمة الحية هي التي تحيا الآن والتي ينفسح أمامها مجال الحياة للمستقبل، وأنها الأمة التي تخدم ماضيها باستخدامها إياه لا باستسلامها له، والأمة الحية تنمو وتتكامل ويكون ماضيها مهما سما دون حاضرها ويكون مستقبلها أمامها لا وراءها."

 

خلود الرسالة في الانفتاح على شعوب العالم والتفاعل الانساني مع تجاربها

 

إن تجديد القيم الإنسانية والارتقاء بها إلى درجة الكمال هي رسالة دائمة لأمتنا العربية، وهي الرسالة التي يحملها البعث منذ تأسيسه، وتبدو واضحة في انفتاحها على شعوب العالم، انطلاقاً من أن التقدم البشري لا يقوم على فكر أمة واحدة، وإنما هو تفاعل وتمازج بين أفكار الأمم المتقدمة، فتتلاقح الأفكار والنظريات لتأخذ مساراً تاريخياً، فتنضج وتخرج للبشرية جمعاء، إن تحفيز التقدم البشري لا يعني خلقه من العدم، وإنما تطهيره وإغناءه بمضامين جديدة منحها عقل الأمة الواعي وخلّدتها روحها المتجددة، وهو ما يعني أن خلود الرسالة هو خلود متجدد بشكل إبداعي متطور، يدرك أن حركة المجتمع هي حركة تصاعدية وإلى الأمام، لا تعرف الإستسلام ولا الوقوف.

الرسالة الخالدة تكمن في الاستجابة الدؤوبة لضرورات الواقع

يقول القائد المؤسس : "إن الرسالة العربية الخالدة هي في فهم هذا الحاضر وتلبية ندائه والاستجابة لضروراته. والخلود ليس شيئاً بعيداً في الأفق أو خارج نطاق الزمن. إنه ينبعث من أعماق الحاضر، فإذا فهمه العرب بصدق

 

وعاشوه بإخلاص فإنهم سيؤدون رسالتهم الخالدة. إنهم إذا عرفوا هذه التجربة ومروا بها حتى نهايتها، وتغلبوا على ضعفهم وتقاعسهم ونفسيتهم السطحية الزائفة، لا يكونون قد بنوا أمتهم فحسب وانشأوا كياناً قومياً بل يكونون قد قدموا للإنسانية كلها بنتيجة هذه التجربة أدوات صالحة أيما صلاح ومهيأة أيما تهيئة لحمل أعظم الرسالات وأصدقها."


ولأن امتنا العربية قد امتلكت وما زالت، كل هذه المقومات والشروط، لذا فقد امن البعث بانها مؤهلة لإحياء دورها الحضاري الإنساني بين الامم، وبما يليق بتلك الامكانيات، وبتاريخها العريق لتواصل مسيرتها التحررية النهضوية، والتي لن تزيدها التحديات الجسيمة التي تمر بها الا قوة وصلابة وعزيمة مهما بلغت التضحيات.








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق