الاجتثاث جريمة منظمة تمارسها الدولة
د. قيس محمد
نوري
وكالة الحدث
الاخبارية
السبت، ٩ / ٢/
٢٠١٩
حين يكون العنف
غير عشوائي (مؤطراً) وموجهاً وله هدف، فأنه يندرج تحت أشكال الجريمة، سواء كانت قد
ارتكبته عصابة تحترف الجريمة، أم اقترفته الدولة، الفرق بين مرتكب فعل الجريمة
الفردي، أو عصابة (مافيا) وبين جريمة الدولة، هو أن الأخيرة تمارس الجريمة لخلق
حالة من القلق والتوتر والاضطراب في المجتمع بصفة واسعة، وهو ما يعرف باستراتيجية
التوتر، في حين أن جريمة المافيا تبقى في إطارها المحدود.
الجريمة، وهي
اشتقاق من فعل (جرم) تعني التعدي على العلاقات والروابط الإنسانية بمعانيها
المختلفة سواء القانونية منها أم الاجتماعية أم الإنسانية، ويعرّف الفقه القانوني
الجريمة المنظمة بأنها: (مشروع إجرامي يمارسه مجموعة من الأفراد بتنظيم مؤسس ثابت
ومؤطر له بناء هرمي ومستويات للقيادة وقاعدة للتنفيذ ويحكمه نظام داخلي)، من
أخطارها وتبعات ممارستها إحداث انهيار اقتصادي وفساد أخلاقي وتصدع مجتمعي شامل من
خلال ملاحقة المواطنين في رزقهم، وقد أصلت الأمم المتحدة الآثار المترتبة على
الجريمة المنظمة في بيانها الصادر عن المؤتمر السابع للمنظمة الأممية بِشأن
الجريمة، الذي عقد في مدينة ميلانو الإيطالية سنة 1985، أن الجريمة المنظمة، خاصة
المرتكبة من الدولة بأنها:
(تعيق إلى حد بعيد جهود التنمية السياسية
والاقتصادية والاجتماعية للشعوب، وتهدد في الوقت نفسه حقوق الإنسان والحريات
الأساسية والسلام والاستقرار والأمن).
عند المقارنة
بين هذه النصوص والوصف القانوني للجريمة، وبين الحالة، التي سادت العراق بعد
احتلاله، نجد أن الحاكم الأميركي (بول بريمر) أسس بتاريخ 16 نيسان/ أبريل 2003
تشكيلاً في أطار هيكلية الدولة ما بعد الاحتلال يسمى (هيئة اجتثاث البعث) طالت
أهدافه شريحة كبيرة من المواطنين موظفي الدولة لمجرد انتمائهم إلى حزب البعث
العربي الاشتراكي، بصرف النظر عن عدم ارتكابهم أي جريمة جنائية تستوجب العقاب، ثم
لاحقا أصدر برلمان ما بعد الاحتلال قانوناً جديداً سماه (المساءلة والعدالة) رقم
10 لسنة 2008 الذي وسع المشمولين بالاجتثاث، كما فرض عقوبات جديدة منها الاستيلاء
على الممتلكات
.
منهج الاجتثاث
طال جميع مؤسسات الدولة العراقية كالجامعات والمحاكم والإدارات العامة والمدارس
والمستشفيات بطرد كوادرها، بالإضافة إلى تفكيك الاف من منتسبي أجهزة الدفاع
والداخلية وتسريحهم، مما أدى إلى فتح الباب على مصراعيه لتخريب مؤسسات الدولة وسلب
ممتلكاتها وتهشيم البنية التحتية للبلاد وسرقة موروثها التاريخي والثقافي، المتاحف
والمكتبات العامة وسرقة الأرشيف التاريخي للعراق وبعثرة المواقع الأثرية وسرقة
محتوياتها، وهذه الحالة من شيوع الفوضى العامة أدت إلى زيادة مستوى الجريمة العامة
وزيادة ظاهرة القتل العشوائي والاغتصاب والاعتداء على الحرمات .
إجراءات الملاحقة
هذه والمؤسسة في أطار حكومي إجرائي، ينطبق عليها توصيف المؤتمر السابع للأمم
المتحدة المشار إليه آنفا، إذ أن الهيئة المكلفة، لها تنظيم مؤسس ثابت ومؤطر
رسمياً وقراراتها واجبة التنفيذ من دوائر الدولة ومفاصلها، وعمل هذه الهيئة اختص
حصراً بالنظر في مسألة الانتماء الفكري والتنظيمي إلى جهة سياسية، وإصدار قرارات
ذات أثر عقابي حرمت بموجبها الملايين من المواطنين من مصدر رزقهم وعائلاتهم مما
فعّل استراتيجية التوتر لتسود المجتمع العراقي عبر تطبيقها إجراءات عقابية مقصودة
تمارسها الدولة بحق مواطنيها، مما يضعها في محل مخالفتها الصريحة للدساتير وشرعة
الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، واغتصاب حقه الطبيعي في العيش الكريم وتأمين مصدر
رزقه، ناهيك عن حجب استحقاقاته جراء خدماته الوظيفية في الدولة كخدمة عامة لا
علاقة لها بانتمائه الشخصي لفكر معين، فالانتماء لأي فكر كان ليس جريمة جنائية
تستوجب المحاسبة القانونية، كما هو حال الجرائم الجنائية التي ترتب إجراءً
عقابياً، هذه الإجراءات عطلت حركة المجتمع والدولة بنحو عام وأوقفتها عن أداء
أدوارها وأعمالها الحياتية والوظيفية المعتادة والتي شكلت فراغا معنوياً
وقانونياً، وهي معضلة كبيرة هزت أمن المجتمع واستقراره وأصابت بالأذى مفاصل نسيجه
وترابطه الاجتماعي .
الدولة، أي دولة
كانت، عندما تلجأ إلى إصدار قوانين ترتب أذى مباشراً وجسيماً يطال شريحة واسعة من
مواطنيها بجريرة لا ينطبق عليها أي معيار قانوني مسوّغ للعقوبة، تضع الدولة نفسها
في مصاف الممارسة الفعلية لفعل الجريمة المنظمة الممارسة من الدولة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق