قلق الدول الصغيرة من الدول المجاورة الأكبر منها هل هو مشروع؟
بقلم / نزار السامرائي
يقول بعض السياسيين الإسبان، إن سوء حظ إسبانيا جعلها جارة لفرنسا، وربما انتابت هذه المشاعر أذهان بعض السياسيين المكسيكيين بسبب مجاورة بلدهم للولايات المتحدة، ولأن العراق يجاور بلدين كبيرين في المساحة وعدد السكان هما تركيا وإيران، ولأنهما دولتان ذواتا ماضٍ امبراطوري معروف عبر حقب تاريخية طويلة، فأظن أن من حقي أن أفكر بأن من سوء حظ العراق لأنه جاورهما، بالمقابل ربما هناك من يعتقد أن سوء حظه أكبر لأنه يجاور بلدا كالعراق، وليس من حقي أو من حق أحد أن يحجب عن الآخرين حقهم في تقدير حسن حظوظهم أو سوئها.
وعلى العموم شهدت الدول المتجاورة فيما بينها نزاعات مختلفة الأسباب والدوافع، معظمها على الحدود وبعضها على الثروات، وكانت هذه النزاعات تشتد وتفتر تبعا لنوايا الطرفين في التوصل لحلول عادلة للأزمات المسببة للتوتر والنزاع بينهما، لكن التاريخ سجل لجوء الدول الصغيرة للاستقواء بدول أكبر منها، أو بقوى دولية كبرى ليست ضمن منطقتها الإقليمية، وتترك الطرف الآخر يمزقه الشعور بالضيم، بحيث يسعى للتحرر منه في أول فرصة تتاح له، سواء بالاعتماد على تغير الموازين الدولية والإقليمية، أو بتغير التحالفات نتيجة تبدل المصالح الاستراتيجية، لأن عالم اليوم لا تحكمه القوانين الدولية ولا الأخلاق، بل تحكمه لغة المصالح حتى لو جاءت على حساب الشعوب الأخرى.
شهد العقدان الأخيران من القرن الماضي، حالة من عدم الاستقرار في المعادلات الإقليمية في الشرق الأوسط، عند وصول الخميني إلى حكم إيران بدعم دولي متعدد أو بصمت من أطراف أخرى، بعضها ظن أن وصول رجل دين متطرف مثل الخميني إلى الحكم في إيران، سيعني أن حلقات التطور التي أقامها شاه إيران المعزول محمد رضا بهلوي، ستتهاوى بسرعة، لأن الفكرة الأولية التي كونها الغرب خاصة والعالم المسيحي عموما، وانطلاقا من البناء على تجربة الصراع القديم بين رجال الدين ورجال السياسة في العالم المسيحي، كان يستنتج أن العقلية المتخلفة التي يحملها رجال الدين الإيرانيون، والتي لخصها الشاه بمذكراته، عندما قال (قلت للسفير البريطاني، لقد افتتحت عدد كبير من الجامعات في بلادي، فقال إن السفير قال لي ونحن أنشأنا حوزة علمية، ستهدم كل ما بنيتم)، ستؤدي إلى تراجع إيراني على كل المستويات، وربما كانت هذه الفكرة حاضرة في أذهان مهندسي السياسة الأمريكية والأوربية عندما تخلّوا عن الشاه، وتركوه وحيدا يواجه مصيره الأسود أمام الخميني وأتباعه، لأنهم رأوا فيه حليفا معاندا لخططهم وسياساتهم في المنطقة.
بمجرد وصول الخميني إلى السلطة، بل قبل ذلك ومن منفاه في باريس، أعلن صراحة أنه وبعد أن يعود إلى طهران، سيكرس جهده (لإسقاط النظام العراقي)، وبذلك فقد حدد مسار السياسة الخارجية لإيران كخط عدائي متصاعد في وتيرته للعراق خاصة، ولكل النظم القائمة في الخليج العربي، وبدأت طبول الحرب تقرع بقوة في طهران، فشهدت الحدود الإيرانية العراقية، اشتباكات كانت المدفعية الإيرانية تطلق قذائفها على المدن العراقية، فحصلت موجة هجرة من كثير من المدن العراقية الحدودية نحو مدن آمنة، مما حدا بالحكومة العراقية إلى تثبيت تلك الوقائع بمذكرات رسمية إلى الأمم المتحدة، ولكن الأمم المتحدة اكتفت بتصريحاتها البائسة بِحَثِ طرفي النزاع على ضبط النفس.
ولما تخطت إيران الحدود المقبولة من قبل أية دولة ذات سيادة، وبعد أن أسقط العراق طائرة حربية داخل الأراضي العراقية وأسر قائدها، كان لا خيار أمام العراق، إلا الدفاع عن شعبه وسيادته الوطنية وأمنه القومي، فكانت الضربة الجوية يوم الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر 1980، هذا اليوم الذي تعتبره إيران يوم بدء الحرب.
وبعد حرب ضروس استمرت ثمانية أعوام، سجل فيها العراقيون أشرف الصفحات في الدفاع الوطني أمام أخطر هجمة يتعرض لها قطر عربي، أُرغم الخميني على تجرّع كأسَ السم والموافقة على قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 598، على الرغم من أنه كابر كثيرا وأشاح بوجهه عن قرارات مجلس الأمن الدولي التي وافق عليها العراق، بما في ذلك القرار الذي صدر بعد أسبوع من بدء الحرب، تماما كما تجاهل المساعي التي أطلقتها حركة عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها، تعززت مكانة العراق عربيا وإقليميا ودوليا، فانصرف لإعادة بناء ما دمرته الحرب، أو اختزال الزمن لتخطي الفرص التي ضاعت منه في مشاريع التنمية بسبب الحرب، من هذه النقطة بالذات انطلقت خطط إعاقة برامج العراق للبناء الاقتصادي زراعيا وصناعيا، فتم تسجيل عدة ظواهر خطيرة في تصرف الدول الخليجية، وخاصة ما أقدمت عليه كل من الكويت والإمارات العربية، في زيادة انتاج النفط وطرح كميات أكبر بكثير من قدرة الأسواق العالمية لاستيعاب الفائض، خروجا على قرارات الأوبك بتحديد سقوف الإنتاج لكل دولة من الدول الأعضاء، فبذل العراق جهودا مضنية لإقناع الدولتين بوقف إغراق السوق الدولية بفائض النفط، لأن إعادة البناء كانت تتطلب تخصيصات استثنائية، كما تدعو الأشقاء العرب للتعامل مع الديون السابقة بقليل من المسؤولية القومية والأخلاقية، ولكن الكويت وبدلا من ذلك، تمادت وراحت أبعد من مجرد التلاعب بالإنتاج، فراحت تتجاوز على حقول النفط العراقية وتستخرج النفط عبر الحفر المائل، وكانت تفتعل الأزمات مع العراق افتعالا، لأنها هي ودول مجلس التعاون الخليجي، شعرت بأن خروج العراق منتصرا في حرب الثماني سنوات، ثم نجاحه في توطين التكنولوجيا وانطلاق التنمية الاقتصادية الكبرى، سيعد تهديدا لوجودها وليس لأمنها فقط، ومن هنا بدأت المخططات الأمريكية الأوربية، مع دول مجلس التعاون الخليجي، لتدمير قدرات العراق الاقتصادية، وهذا ما جر المنطقة إلى خيارات صعبة، إذ أُجبرت القوات العراقية لدخول الكويت في الثاني من آب/أغسطس 1990 وما أعقبها من تداعيات ومآسٍ على المنطقة ما تزال تتجرع ويلاتها.
لقد تآمرت الكويت ودول الخليج العربي، على العراق مع الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوربي وحلف شمالي الأطلسي، وتواطأت مع الاتحاد السوفيتي السابق والصين واليابان ودول آسيوية أخرى، وكانت سخية معها إلى أبعد الحدود عندما دفعت لها المليارات من الدولارات كرشوة لها، إما لشراء صمتها أو للمشاركة الشكلية في قوات العدوان على العراق عام 1991 أو في عام 2003.
واليوم دعونا نراقب المشهد السياسي والدبلوماسي والأمني في منطقة الخليج العربي، والدور الإيراني التخريبي التوسعي، واعتماد سياسة المراحل في إخضاع الدول العربية لهيمنة ولاية الفقيه التكفيرية، والتي وضعت في الدستور الإيراني نصوصا تعتمد مبدأ تصدير الثورة، وكرست مفهوما عدوانيا توسعيا، تحت لافتة مسؤولية إيران في نصرة المسلمين المستضعفين في العالم، وهذا تأكيد أن إيران أجازت لنفسها حق التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، كما حصل في العراق بعد عام 1979، وهو عام وصول خميني للسلطة بطائرة فرنسية وما أعقبه من أحداث متسارعة، في حين أن إيران نفسها تستشيط غضبا إذا تحدّث الإعلام العربي يوما عن اضطهاد السنة فيها، أو عدم السماح لهم بإقامة شعائرهم التوحيدية، أو عما تتعرض له القوميات غير الفارسية من اضطهاد مُرّكب مثل البلوش والأكراد، أو اضطهاد عنصري كما يحصل مع العرب والآذريين، وتعدّه تدخلا مرفوضا بشؤونها الداخلية.
والآن نلاحظ بأسف وخيبة أمل، أن دول مجلس التعاون الخليجي تتذلل لإيران بطرق مبتذلة، فتارة تفتح صفحات جديدة تطبيقا لمفهوم التطبيع، والذي عادة لا يمكن أن يحصل بين طرفين غير متكافئين أبدا في قوتهما المادية أو بتأثيرها في سياسات القوى الدولية الكبرى، كما حصل بين السعودية وإيران وتم توصيفه بأنه استجابة لجهود صينية طويلة، لكن الحقيقة هي أن السعودية تهالكت من أجل الوصول إلى هذه الأمنية الغالية، بعد أن استدرجتها إيران إلى معركة لم تكن السعودية مهيأة لها، إما لأنها لم تعرف جيدا تاريخ اليمن وأن أيا من الدول التي غزته لم تخرج منه إلا بالهزيمة، كما لم تقرأ المشهد الدولي بما ينبغي أن يحصل، عندما أطلق محمد بن سلمان (عاصفة الحزم) والتي تحولت إلى مجرد عاصفة رملية بلا حزم، ولم تكن السعودية مهيأة من ناحية التسليح والتجهيز، لأن ما كدسته من أسلحة كان لمجرد الخزن والمباهاة أو للمشاركة في الاستعراضات العسكرية، ثم إن جيشها لم يخضع لتدريب جدي يجعل منه جيشا عصريا ليحارب حروبا حديثة، فضاع وسط ضجيج عال أحدثته عاصفة الحزم في أجهزة الإعلام ولم ينتقل إلى الأرض كما هو مطلوب.
ولكن هنا عليّ أن استدرك لأقول، إن قوات الشرعية (وهي تنتمي إلى شعب عصي على الاحتلال) والمدعومة من قوات التحالف، أوشكت أن تحرر مدينة الحديدة وتحقق خنقا محكما لعصابات الحوثي المدعومة من إيران وعملائها، مثل حزب الله اللبناني والمليشيات العراقية، ولكن تدّخل القوى الدولية الكبرى، التي تزعم إيران أنها تعاديها، أو تزعم تلك الدول أنها تقف على الضد من توجهات إيران المزعزعة لاستقرار المنطقة الرئيسة المنتجة للنفط في العالم، فأوعزت للأمين العام للأمم المتحدة ليحرك ممثله مارتن كريفيث ليُصدر أمراً دوليا واجب التنفيذ الفوري بوقف عملية الحديدة وإضاعة الفرصة التاريخية، كل هذا من أجل أن يبقى هذا الميناء شريانا لإمداد الحركة الحوثية بأسباب الحياة، ويجعل الحركة تتشدد في مطالبها عبر عمليات عسكرية طالت مدنا سعودية وإماراتية، فظهر العجز الرسمي العربي في أوضح صوره عن حسم معركة صغيرة بحجم معركة مدينة واحدة، لأن العالم يريد دمج الحركة الحوثية في المشهد السياسي اليماني كمعادل لكل المكونات اليمانية الأخرى، بل منحها صفة الطرف المعطل في البلاد.
المراقب يتابع بقلق المشهد الإقليمي ولا سيما في منطقة الخليج العربي، وقد يصاب بالدهشة من سرعة انجاز التطبيع السعودي الإيراني، والذي جعل دول الخليج العربي الأخرى تتداعى كتساقط قطع الدومينو، وكذلك من سلوك بعضها مثل سلطنة عمان وقطر وهما تحاولان لفت الانتباه إليهما، وتقولان نحن هنا، فتقومان بدور الوساطة بين واشنطن وطهران، والتي لا تحتاجها أمريكا ولا إيران، لأنهما متفاهمتان من تحت الطاولة أصلا، ولا يوجد ما يدعوهما لتوسيط دول صغيرة الدور والمكانة، مثل سلطنة عمان أو قطر، إلا من باب جبر الخاطر والشفقة والعطف، كي لا تشعر بالوحدة او بالهلع من أحد طرفي النزاع، وبين هذا وذاك، أضاعت دول الخليج العربي على نفسها وعلى المنطقة تحقيق الأمن الذاتي سواء بالإبقاء على دعم العراق لا محاربته وتسليمه لإيران بصينية من ذهب، أو بتفعيل اتفاقية قوات درع الجزيرة التي ظلت حبرا على ورق، فيما لو قبلت أن تتنازل للشقيق بدلا من التآمر عليه، بدلا من الوصول إلى مستنقع الذل في علاقات غير متكافئة مع العدو الحقيقي والتاريخي، إيران الشر والتوسع والهيمنة، التي إن تمكنت، فإنها تصادر حق العرب في التعبير عن هويتهم أو التحكم بثروتهم، وتنزع عنهم سيادتهم وتتحكم بقرارهم السياسي، وتفرض عقيدتها الدينية التكفيرية عليهم، وتقوم بأكبر ما هو متاح لها من فرض معتقدات وثقافة بقوة السلاح، ومن لا يعي هذه الحقيقة عليه أن يرصد ما حصل في العراق منذ 2003، والذي حولت أبناءه إلى غرباء في وطنهم أو في المنافي، ثم كيف سقطت ثلاث عواصم أخرى تحت قبضة قاسم سليماني وهي بيروت ودمشق وصنعاء، ومن يريد التعرف على أساليب إيران في السيطرة على المجتمعات المحتلة فليعد إلى التاريخ قليلا ويدرس تجربة إسماعيل الصفوي وكيف تعامل مع المخالفين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق