الأحد، 3 ديسمبر 2017

التضامن الاممي معكوسا هذه المرة .....الدكتور عبد الكاظم العبودي


التضامن الاممي معكوسا هذه المرة 


منذ ثلاثينيات إلى نهاية سبعينيات القرن العشرين تصاعد ظهور أنماط من حركات التحرر والمجموعات الثورية التي أطلق عليها حينها بالحركات والجماعات الأممية ، والتي غالبا ما كانت تعبأ جماعات ، خاصة من فئات الشباب ، مزودة ومعبأة بخليط واسع من  أفكار ماركسية وثورية وفوضوية ، وبعضها كانت جماعات منشقة ،  أفراداً أو مجموعات ، انسلخت عن حركات وتنظيمات شيوعية وخرجت عن انضباط  أحزابها التقليدية المعروفة تاريخياً .

وإذا كانت تلك المجموعات قد شدها وجمعها يوماً ما ، مثل إيمانها بهدف تحرري في وقت معين ، تجلى في سعي بواكير من طلائعها في ثلاثينيات القرن الماضي إلى مواجهة ومناهضة صعود القوى الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا ومرحلة أخرى مهدت لصعود الجنرال فرانكو من خلال انقلابه العسكري على السلطة في إسبانيا ، فكانت الحرب التي سميت بــ" الحرب الأهلية " ، رغم التشابك الدولي والإقليمي فيها ،  والتي استمرت  لثلاث سنوات ( من تموز / جوليه 1936 إلى نيسان / أفريل 1939 ) مريرة وقاسية على الشعب الإسباني.

تلك الحرب انتهت بتحطيم واحدة من الثورات العمالية ومكنا من انتصار قوى الردة والرجعية والفاشية ، وأثبتت أيضا فشل الاستراتيجية الاستالينية المتبعة آنذاك  من ناحية أخرى .
 لقد كانت الحرب الأهلية الاسبانية  ( ( Spanish Civil War واحدة من المحطات الهامة للتأمل والدراسة والمقارنة مع واقع أوضاعنا العربية الحالية ،  فقد كشفت تلك الحرب ونتائجها عن مدى التناقضات والرياء والنفاق الفاضح في ما يسمى الالتزام الدولي في الاتفاقيات الرسمية الأوروبية الموقعة والمشترطة بعدم التدخل في الشأن الداخلي الإسباني ، لقد جرى عكس ذلك  بما حدث فعلا على أرض الواقع الاسباني ،  حيث كان يقف وراء كل طرف في ذلك النزاع أحد البلدان الأوروبية المجاورة ، وبالخصوص نظاما هتلر وموسوليني في ألمانيا وإيطاليا ،  وهو ما سرّع بنجاح حليفهما الجنرال فرانكو وانتصاره في حسم معاركه وبلوغ السلطة في نهاية الحرب ، وسيطرته المطلقة بالنار والحديد على إسبانيا من خلال قبضة حديدية فاشية استمرت حتى رحيله عام 1976 .

وإذا كانت القوى اليسارية التي جندها الاتحاد السوفيتي والأحزاب الشيوعية السائرة في ركابه حينها ، بدفع مناضليها وتشجيعهم آنذاك ودعوتهم  إلى حمل السلاح والتطوع  لاحقاً في الحرب الأهلية بإسبانيا ، قابلهم  ذلك الانقلاب الذي قاده الجنرال " بريمو دي ريفيرا " (1923-1930م) وبعدها صعود الائتلاف الجمهوري الاشتراكي (1931-1933م) وقيام انتفاضة عمال المناجم في " أستورياس " شمال إسبانيا سنة 1934 ، وهي الأحداث التي شكلت نقطة بداية لمسلسل توظيف وتجنيد المغاربة لسحق هذه الثورة ، خلال فترة عودة اليمين الرجعي إلى الحكم (1933-1936م) ، حيث قاد العديد من الضباط والجنرالات ، وفي مقدمتهم " فرانسيسكو فرانكو " ، تمرداً على الحكومة الشرعية ،  انطلاقاً من الأراضي المغربية ،  التي كانت آنذاك خاضعة لنفوذ الاستعمار الإسباني ، واعتماداً على عناصر من ما كان يسمى " جيش إفريقيا " خاصة و" الجيش المغربي " المجند ضمن طابور " اللفيف الأجنبي " الذي كان يتكون أساساً من  المرتزقة والمجندين  الإيطاليين والإسبان والأمريكيين .

 وهكذا حقق الجنرال فرانكو أحلامه من خلال حلفائه من القوى النازية والفاشية بألمانيا وإيطاليا ودعم الكنيسة الكاثوليكية ورهبانها له ،  من جهة و دعم المغاربة وتجنيدهم في قواته ، مما ضمن له التفوق  والانتصار على القوات الجمهورية .

وهكذا أصبحت إسبانيا منقسمة عسكرياً وسياسياً وكانت تتقاتل في معسكرين متقابلين ، معسكر القوميين تحت قيادة فرانكو ، ومعسكر الحكومة الجمهورية التي ظلت تقاتل من أجل السيطرة على البلاد ولكنها باتت تفقد السيطرة تدريجياً بسبب الإخلال في موازين القوى والدعم لصالح الجنرال فرانكو وتحالفاته .

 كانت القوات القومية بقيادة فرانكو قد حصلت على ذخيرة وجنود من ألمانيا النازية ومن إيطاليا الفاشية ، بينما كان دعم الاتحاد السوفيتي والمكسيك ، بما فيه المتطوعين ، الذي  يصل لدعم   "الملكيين " أو " الجمهوريين " .

اتبعت البلدان الأخرى ، مثل بريطانيا وفرنسا سياسات مبطنة ، فهي ظاهريا تدعو إلى عدم التدخل ، بالرغم من أن فرنسا استمرت بإرسال الذخيرة والدعم العسكري للقوميين الإسبان بقيادة فرانكو .
وهكذا تقدم القوميون من معاقلهم في الجنوب والغرب ، وأسقطوا معظم الشريط الساحلي الإسباني عام 1937. وحاصروا مدريد والمنطقة الجنوبية والغربية منها معظم وقت الحرب ، خاصة بعد سقوط مناطق كبيرة من كتالونيا عام 1938 و1939 ، حتى انتهت الحرب بانتصار القوميين ، وتم نفي آلاف الإسبان الموالين لليسار ، وقد فر الكثير منهم إلى مخيمات اللاجئين في جنوب فرنسا ، وانضم إليهم الجمهوريون الخاسرون ،  وكل الذين تعرضوا لاضطهاد القوميين المنتصرين .

 وبتأسيس دكتاتورية فاشية جديدة  بقيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو وبقاء فرانكو لما بعد الحرب العالمية الثانية ، اندمجت الأحزاب اليسارية داخل النظام الفرانكوي الحاكم .

عندما  اندلعت الحرب العالمية الثانية ، وجدت بلدان أوربية معينة نفسها تحت الاحتلال النازي ، وحينها لبت مجموعات من الثوريين من مختلف البلدان  نداء واجب التحرير ونصرة الشعوب المظلومة  فانتظمت أفرادا وجماعات في صفوف حركات المقاومات الوطنية الأوربية ، في هذا البلد أو ذاك ،  وظهرت في مجموعات الأنصار المقاومين في بلدان عدة ،  منها في جبهات شملت مواقع المقاومة ضد النازية والفاشية في فرنسا وإيطاليا واليونان ويوغسلافيا ،  وفي بلدان أوربية عدة ،  ومنها كانت هناك فصائل مقاتلة  أسهمت فعلا بتحرير بلدان معينة وطرد الاحتلال النازي وأتباعه ، كما حدث في يوغسلافيا بقيادة جوزيف بروس تيتو ، وفي اليونان وفي إيطاليا حيث تمكنت مجموعات من الأنصار من كتائب المقاومين من رصد وقتل القائد الفاشي الإيطالي موسوليني في ميلانو بإيطاليا.
وفي أمريكا اللاتينية تكررت نفس الظاهرة بانخراط مناضلين معروفين قدموا من مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وشاركوا في ثورات كوبا وتشيلي وبوليفيا وفنزويلا والسلفادور والأرجنتين .

 وكان البطل الثوري الأممي " أرنستو تشي جيفارا " ورفاقه الثوريين الآخرين  مثلاً وقدوة للنضال الأممي الحقيقي ساهموا من أجل إنجاز مهام التحرير في كوبا وفنزويلا ، ومثيلاتها في دول أفريقية ، قادها مناضلون ،  منهم ، من أصول أفريقية وحتى من أبناء المستوطنين البيض ، دعموا المناضل الشهيد " باتريس لومومبا " ومناضلون بيض آخرين انضموا إلى فصائل التحرير في المؤتمر الإفريقي بجنوب أفريقيا وروديسيا وناضلوا إلى جانب  " نيلسون منديلا " ورفاقه  .

لقد كان من أسباب ظهور بعض المنظمات الأممية التي أعلنت مواقفها الثورية ودعمها لحركات التحرر في العالم ، خاصة في الستينيات ، بعد انتصار الثورة الجزائرية وانطلاق الثورة الفلسطينية ، وبتأثير دور وموقف التيارات اليسارية  الفرنسية ،  خلال انتفاضة الطلبة والشباب في  أيار / مايو 1968، في باريس ،  التي كان للمنظمات اليسارية دوراً بارزاً في توجيهها وقيادتها ،  ولا سيما  بعد ما  لقيته من دعم وإسناد في أوربا والولايات المتحدة والعالم ،  في فترة شهدت نهوضاً تحررياً واسعاً .

 وهكذا تطورت الأمور لتتحول إرهاصات الانتفاضة الطلابية في فرنسا إلى حافز لظهور منظمات أكثر عنفاً ، في بلدان أوربية وآسيوية  أخرى ،  وخاصة في ألمانيا الغربية بظهور منظمة ( الجيش الأحمر الألمانية ) ، التي عرفت بمجموعة بادر ــ ماينهوف " Baader - Meinhof " وهي حركة ثورية يسارية ، أسسها في عام 1970 أندرياس بادر وأورليكه ماينهوف ،  وضمت : أندرياس بادر ، غودرون إنسلن ، هورست مالر ، إرمغارت مولر وغيرهم .

يتفق أغلب المحللين السياسيين أن ظهور هذه المنظمة ونشاطها كان نتيجة مباشرة لتصاعد حركات الاحتجاج الطلابية ، وتصاعد نشاط الحركات المناهضة للرأسمالية في أوربا والعالم .
وتعتبر منظمة الجيش الأحمر الألمانية إحدى أبرز وأنشط الجماعات اليسارية التي نشطت في أوربا الغربية في القرن العشرين وخلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، أي خلال فترة ما يسمى ( الحرب الباردة ) .

صنفت هذه المنظمة بأنها مجموعة تخوض حرب العصابات المدنية تتبنى الكفاح المسلح منذ أن ظهرت باسمها اختصاراً " RAF - ألوية الجيش الأحمر "  وقد أعلنت ضمن توجهاتها أيضاً رفض الاحتلال الإسرائيلي ودعمها للثورة الفلسطينية والتنسيق مع بعض فصائل الثورة الفلسطينية وخاصة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الراحل جورج حبش .

سارعت الدول الغربية ، وفي مقدمتها الولايات المتحدة إلى اتهام  ( منظمة  بادر ــ  ماينهوف ) ،  ووصفتها أنها منظمة تسعى  إلى ( صناعة العنف أوروبياً ) ، وسارع الإعلام الغربي إلى وصفها أيضاً بــ( المنظمة الإرهابية الألمانية ) ، رغم أنها  أثارت تعاطف العديد من المفكرين ونشطاء اليسار الأوربي ومنهم الفيلسوف والكاتب الفرنسي المعروف جان بول سارتر و بول هاينريش وغيرهم من رموز اليسار الأوربي آنذاك .

وهكذا خرج « جناح الجيش الأحمر » في أواخر ستينيات القرن الماضي من رحم الحركة اليسارية الأوربية المتطرفة ، وانطلاقاً من ألمانيا الغربية الرازحة تحت احتلال جيوش المحور الغربي المنتصر ، أطلق الجيش الأحمر الألماني  شعارات تعادي ما تعتبره « هيمنة الرأسمالية » على الاقتصاد وهيمنة « الإمبريالية الأميركية » على السياسة الألمانية ، وحتى هيمنة « النازيين » السابقين على التركيبة السياسية الحاكمة في ألمانيا الغربية .

وبالتزامن مع تلك الأحداث ظهرت أيضا في عام 1970منظمة أوربية أخرى تحمل عنوانا  ( الألوية الحمراء ) ، كان اسمها  بالإيطالية Rosse )   : Brigate
[ briˈɡate ˈrosse ] ، وغالبا ما يختصر اسمها  BR، وهي منظمة شبه عسكرية ، يسارية الاتجاه ، ثورية الخطاب ،  تبنت الألوية الحمراء " الكفاح المسلح " ،  كان مقرها في إيطاليا ، وتعتبر مسؤولة عن العديد من حوادث العنف ، بما في ذلك عمليات نسبت إليها ، كالاغتيالات والخطف والسرقات من البنوك وابتزاز المافيات الإيطالية للحصول على الدعم والمال ،  خلال ما سمى " بسنوات الرصاص" .

 وفي أدبياتها وبياناتها السياسية لم تخف الألوية الحمراء أنها : سعت إلى تأسيس وإنشاء حالة " ثورية " من خلال تبنيها شعارات الكفاح المسلح ،  واستمرت بنشاطات متفاوتة الحدة حتى مطلع سنوات التسعينيات من القرن العشرين -  حيث أعلن عن إيداع ماريو موريتي ،  القائد الرئيسي للمنظمة ،  خلال سنوات السبعينيات ، السجن في مدينة ميلانو ، كان ذلك إثر قيام منظمته باختطاف رئيس وزراء إيطاليا الأسبق « الدو مورو ».

وعلى الطرف الآخر من العالم ، شرقاً ،  ظهرت منظمة أممية أخرى قادتها وأسستها الآنسة فوساكو شيغينوبو في شباط / فبراير 1971 بعد انشقاقها عن إحدى التنظيمات الشيوعية اليابانية ، كان من بين أهدافها المعلنة نيتها الإطاحة بالحكومة اليابانية وإنهاء الحكم الامبراطوري ،  والدعوة إلى قيام ثورة عالمية ،  ومحاربة إسرائيل ، وقد ترجمت ذلك بإعلانها ومساندتها للثورة الفلسطينية ، وخاصة بتعاونها التام مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، حيث قامت بمجموعة من العمليات العسكرية .
تعلمت دول الاستعمار الجديد بقيادة الولايات المتحدة والدول الأوربية ومراكز مخابراتها المتعاونة في ما بينها من تلك التجارب الثورية السابقة ، وخططت بذكاء وخبرات متراكمة لإجهاض نشاطها ، وحتى التسلل إلى صفوفها وتصفية قياداتها في بعض الحالات ، والعمل على احتوائها كذلك ،  قصد تشويهها ، وتبرير اتهامها بالإرهاب ، فتمكنت من رصدها وطاردت مناضليها الكبار واغتالت البعض منهم عبر العالم ، كما تمكنت وكالة المخابرات الأمريكية ، بالاستفادة من كثير من تجارب ودروس حركات الأنصار الثوريين والمجموعات الأممية الثورية السابقة ، فعملت على نسخها وتكرار تلك التجارب ، ولكن بشكل معكوس تماماً ،  فوظفتها لصالح قوى الثورة المضادة ووزعتها في أجزاء من بلدان العالم ، كما وظفت طرائق عملها وتوجيهها بالضد من القوى والحركات التقدمية والثورية ، وخاصة في بلدان العالم العربي والإسلامي ،  واهتمت المخابرات الأمريكية بنقل الخبراء الأمريكيون بما سمي بالتجربة السلفادورية والهندوراسية والبوليفية والكولومبية إلى بلدان أخرى تحت ذريعة " الحرب على الإرهاب " ،  فكانت ساحة أفغانستان أولاً هي التجربة الهامة لتجنيد الألوف من المتطوعين العرب بما سمي " الجهاد الإسلامي "  في أفغانستان ضد الاحتلال السوفيتي ، ومنها ظهرت تنظيمات القاعدة وطالبان وغيرها وبمختلف المسميات التي تناسخت وولدت من رحم واحد وفي حضن ورعاية وتربية المخابرات الأمريكية في أكثر من بلد وعبر أكثر من قارة .

ارتبط هذا " الجهاد " بإدارة المخابرات الأمريكية وتمويلها لهذه المجموعات التي تطورت منها لاحقاً صورة تشكيل شركات الحماية ومجموعات المرتزقة والتي قادت ما سمي بثورات الردة والانقلابات ومنها قامت عصابات الجريمة المنظمة بأدوار ومهمات مختلفة في العديد من الدول الإفريقية والآسيوية وحتى في دول أمريكا اللاتينية نفسها.

لقد أصبحت التجربة الأممية السابقة موظفة ومكررة في انخراط شباب العديد من البلدان معممة ولكن بشكل معكوس ومغاير تماما لأهداف تلك الحركات الثورية السابقة ،  لتفريغ شحنة وطاقات الآلاف من الشباب المضلل والعاطل وتوظيفه بالضد من توجهات التحرر الوطني والقومي والأممي الحقيقي وتجنيده  تحت شعارات مضللة وجدت في واجهات التطرف الإسلامي المستغل بذكاء ودراية وتوجيهه وإدارته من قبل قوى الاحتلال الأمريكي وأجهزتها خاصة ،  أولاً ، وبالتنسيق مع النظام الإيراني وما يتبعه ،  ثانياً .

لقد حظيت المقاومة العراقية ضد الاحتلال بعد 2003  بتطوع  وقدوم عدد قليل من أبناء الدول العربية ، وبسبب ظروف الحصار المحلي والإقليمي على المقاومة العراقية ، أمريكياً وإقليمياً ،  لم تتسع الفرص كاملة لوصول المتطوعين الآخرين إلى مناطقها بسبب ظروف العراق ما بعد الاحتلال ، بل انعدمت الفرص لوصول الكثير من المناضلين العرب أو حتى الأمميين من القوى الأوربية والدولية المناهضة للحرب الأمريكية ضد العراق ولدعم المقاومة العراقية ، بل عملت الولايات المتحدة وإيران على التعاون والتنسيق المباشر في إعداد وتدريب وتمويل المجموعات القادمة من مختلف البلدان العربية والإسلامية والدولية وتجنيدها في مجموعات أخذت طريقاً مضللاً منذ البداية لخدمة أهداف المخططات الاحتلالية ، المطلوب تنفيذها وبأسماء مثل " القاعدة في بلاد الرافدين" و" المجموعات الجهادية " تارة ، و " المقاومة الإسلامية " تارة أخرى ، خاصة تلك التي تلقت تدريباً وإشرافاً هاماً من قبل الأمريكيين في العراق على يد السفيرين من عملاء المخابرات الأمريكية ،  كل من نيغروبونتي وخليل زاده ، حيث تم تدريب الآلاف من الجماعات والمنظمات والمليشيات والمافيات وزجها في مهمات الثورة المضادة  و" الصحوات " و" قوى مضادة " أخرى وقفت وتجندت ضد  نهج وقوى التحرير في العراق والمنطقة  .

وهكذا أضحت صناعة الإرهاب وإدارته حرفة  متخصصة من قبل الإدارة الأمريكية والحكومة الإيرانية بامتياز واضح ، يتجلى أيضاً في دعم مخابراتي ولوجيستي  وإعلامي وبمال سياسي ،  وإخراج هوليودي للأحداث التي جرت ،  وخاصة في  توقيت وظهور داعش  وبطريقة إعلان ما يسمى " الدولة الإسلامية في العراق والشام " وطريقة سرعة تسريب عناصرها ومقاتليها إلى بلدان عربية أخرى مثل ليبيا والصحراء الأفريقية ، وظهور الحوثيين باليمن ،  وبعدها  فبركة ظهور ما سمي بالحشد الشعبي في العراق ،  كاستجابة ظاهرية لما سمي" الجهاد الكفائي " تلبية لنداء المرجع علي السيستاني ،  وبتأثير خطاب طائفي ومذهبي واثني مشحون قامت به بقية المرجعيات الدينية على طرفي الصراع المطلوب إيرانياً وأمريكياً ، لتتحول الظاهرة إلى صراعات طائفية يجلب لها عشرات الألوف من الشباب والمقاتلين من أغلب الدول الإسلامية وحتى من جنسيات دولية غير مسلمة .

منذ بداية التسعينيات ، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانتكاسة العديد من حركات التحرر في المنطقة والعالم أجهضت أفكار وأهداف الحركات التحررية والثورية والأممية والتقدمية عبر العديد والمناطق في العالم ،  لتفسح المجال إلى اندفاع القوى الظلامية المشبعة بروح العنف والحقد والانتقام وتشويه صورة الإسلام ومحاربة المقاومات الوطنية ونضال الشعوب ضد الاحتلال والهيمنة ولإلهاء هذه الشعوب المنتفضة عن مهمة إسقاط الأنظمة الدكتاتورية والغاشمة ليحل محلها الفوضى المسلحة  في سوريا ولبنان والعراق واليمن وأقطار عربية أخرى .

والملفت للنظر هنا أنه :  ( لم يحدث في تاريخ حروب التحرير في المنطقة العربية خلال مئة عام ، ولا حروب الغزو والاحتلال الغربي لها ، ظهور تنظيم مسلح فجأة ،  كما بعد بدء الثورة المضادة 2013 ).
وبتواجد الولايات المتحدة ، كقوة  احتلال في العراق ،  وبعد تصاعد خسائر قوات الاحتلال الأمريكي عندما واجهت أمريكا مصاعب كبيرة بسبب ضربات المقاومة العراقية الباسلة ، فقد أوكلت الإدارة الأمريكية لعملائها في العراق ، ممثلين في حكومة العراق برئاسة نوري المالكي ، وبتوكيل الأمر بالتعاون المباشر مع إيران خاصة ، وبتنويع  وتوفير مصادر التمويل الخليجي والدعم التركي ، لتوريد المقاتلين ، وتسهيل هروب قادتهم من السجون الأمريكية ــ العراقية ، وجرى ذلك بكل سهولة ، سواء كان ذلك بسرية  أو علنية ،  وبسيناريوهات مذهلة في الإخراج ،  لم ترد حتى " في قصص أشبه بالأساطير الخيالية " ، حيث خرج قادة الإرهاب من السجون ومناطق الاحتجاز لهم ، وكأنهم ذاهبون لتنفيذ مهمات  سينمائية ! ومرّوا أمام الكاميرات والشحن الإعلامي المحلي والدولي ، لتتسع الحالة إلى توفير الإمكانيات وفتح الحدود لهروب وتسلل الآلاف من أمثالهم من بقية السجون العربية التي أطلقت سراحهم في تزامن واحد ، خاصة بعد الفشل الذي لحق بما سمي " الربيع العربي " للمشاركة والالتحاق في جبهات ساخنة ومحددة في سوريا والعراق ، وانطلقت مجاميعهم  أساساً لتنفيذ  ثلاث أهداف وهي على التوالي  :

أولاً : إجهاض المقاومة العراقية والانتفاضة الشعبية وحركات الاعتصامات والتظاهرات المدنية المتصاعدة في العراق .

ثانياً : إجهاض حركة الشعب السوري المنتفضة وثورته ضد نظام بشار الأسد وإفساد هذه الحركة وإشغالها في معارك جانبية لإنقاذ نظام بشار الأسد من السقوط ،  فكان لمجموعات ومليشيات المرتزقة ، وبمسمياتها المختلفة دور كبير في استمرار العنف والإرهاب وتعطيل مسارات التحرير والتغيير الثوري الذي تنشده الشعوب .

ثالثاً : إجهاض الانتفاضة الشعبية في اليمن ضد نظام علي عبد الله صالح وتسهيل التدخل الإيراني بظهور ما يسمى " المليشيات الحوثية " وتعاونها مع بقايا مؤسسات الرئيس اليمني المخلوع وبتدريب وإشراف حزب الله اللبناني وفيلق القدس .

ولعل ما جرى في سوريا والعراق خاصة من حالة تطورات الصراع  أصبح كتحصيل حاصل لا يختلف عن ما جرى في إسبانيا خلال سنوات الحرب الأهلية من توافق الإرادات الدولية ، رغم توجهاتها العامة والخاصة ، التي تبدو ظاهرياً متضادة ومتصارعة ، إلا أن المصلحة المشتركة للتدخل الدولي تغلبت على الأخلاق والمواقف ،  فسوريا الآن ، وكذلك العراق واليمن وليبيا دول منقسمة داخلياً وتحكمها إرادات دولية متصارعة هي الأخرى .

 والمنطقة برمتها تئن تحت وطأة حرب أيديولوجية وطائفية وإثنية تنفذها المليشيات ومن يحميها بالوكالة ، فمرة تبدو وكأنها صِدام بين السلفية الخليجية والتشيع الصفوي الإيراني ، ومرة بين " الوهابية " و" التشيع " أو حتى بين قوى الاعتدال المتشابكة المصالح مع الشرق والغرب .

 الصراع على الأرض تنفذه مليشيات جاءت عناصرها من أغلب دول العالم ولا يهم الدين الذي يحمله هؤلاء في رؤوسهم ممن أطلقوا اللحي وحملوا الرايات البيضاء أو السوداء ، ولا يهمهم ما يكتب عليها من شهادات  أو تكبير ، أو رموز كلها تشير وتوحي إلى الإسلام لتمسخ قيمه وتقاليده وسمعته وعقيدته السمحاء ، مجموعات تتصارع وفق ما أرادته منها الاطرادات والقوى الدولية  بالرصاص والحرق والنسف والتخريب على الأرض ،  بينما تحوم فوق الجميع طائرات القوى الدولية الأمريكية وحلفائها والروسية وتحالفاتها ، ونحن شهود والعالم كله يتفرج على فظائع آخذة في التفاقم وصلت إلى إطلاق الصواريخ البالستية على المدن الآهلة بالسكان ، واستعمال ذخائر الحرب الكيميائية ، وتنفيذ المجازر المروعة ، وممارسة كل أشكال الاضطهاد الديني والمذهبي ، والسبي ، وبات الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي تنقل الأخبار العاجلة والمصورة التي تملأ المواقع الالكترونية بصور ومشاهد الذبح والتفجيرات وعودة لقطع الرؤوس ، وتكريس مظاهر العبودية وبيع الرقيق وممارسة عمليات التطهير العرقي والطائفي والديموغرافي وترك الملايين من النازحين في العراء ،  ومنعهم من العودة إلى بيوتهم ، ويتم استيطان جديد لأقوام وبشر قدموا من مناطق أخرى .

  (...  أمامنا متطوعون محفزون فكريًا يتسارعون من الأنحاء القصوى والدنيا ، وعلى مقاعد المتفرجين ، مجددًا أيضًا ، لدينا قوى ليبرالية تبدو عاجزة عن استحضار نهاية للنزاع ) .
فعلاً دروس تكرار الحرب الإسبانية وتغيير خرائط النفوذ لصالح القوى والدول المتورطة في الصدام في سوريا والعراق تذكرنا بتلك الحرب الأهلية الإسبانية (1936 ــ 1939) ، رغم أن الحرب الأهلية الإسبانية  كانت قصيرة نسبياً ، وتوقفت  لصالح فرانكو بعد ثلاث سنوات ، ولكنها أيضاً فتحت الطريق لاندلاع الحرب العالمية الثانية ( 1939 ــ 1945)  بكل أهوالها ومجازرها وما انتهت إليه من تقسيم العالم إلى معسكرين متصارعين  .

لقد وثق ( ﭙول بيترسون ) كل ما جرى في إسبانيا ، غداة انتصار فرانكو وما بعدها وشرح بتفصيل مرعب في كتابه ( الهولوكوست الإسباني : التحقيق والتصفية في إسبانيا القرن العشرين ) الصادر سنة 2012، فقد دون معطيات هامة وتاريخية عن استمرار الإعدامات الجماعية حتى بعد الحرب ، وقد تلقى فرانكو وأعوانه دعماً هائلاً من هتلر وموسوليني ، فيما تلقت الجمهورية الإسبانية الدعم من الاتحاد السوفييتي فقط ،  وبقدر أقل من المكسيك ،  أما قادة ما تسمى بالدول الديمقراطية فقد كان في تغافلهم دعم كاف لنظام فرانكو رغم انتمائه عقائدياً إلى المعسكر النازي والفاشي ، وهكذا بقي فرانكو في السلطة حتى وفاته في تشرين الثاني 1976 وخلال حكمه تم قمع النقابات والمثقفين والصحافة وداعمي حقوق الأقليات ، خصوصا الكاتالونيين والباسكيين ، ولم يمنع هذا حتى قوى حلف الناتو من الوقوف في صف النظام الفاشي ، ففرانكو ، رغم كل شيء، بالنسبة لهم يكفي أنه كان معاد للشيوعية .
ومن حوصلة العرض أعلاه ،  نجد أن الجامع المشترك في أحداث العراق وسوريا واليمن وبعدها ليبيا أن التنظيمات الإرهابية التي غلب عليها تواجد الأجانب ، وخاصة من خلال تدخل الحرس الثوري الإيراني ، بكل واجهاته الطائفية ،  كفيلق القدس ،  وفيلق بدر العراقي ،  وحزب الله اللبناني ،  وعشرات المليشيات القادمة من أفغانستان وايران والعراق والتي تجاوزت المائة تخضع لتسيير الحرس الثوري الإيراني ، ويتواجد فيها أكثر من 80% أجانب جلبوا من الخارج ، وبتسهيلات لوجستية ومالية ميسرة جداً ، وبتنسيق مخابراتي دولي ،  بدا واضحاً للجميع ،  بدءاً من إيران وأفغانستان وتركيا وبيروت من خلال حزب الله اللبناني وشبكاته ونفوذه عبر البر والبحر ؟ .

إن مجازر هذه الفيالق الأممية الجديدة المتورطة ، ليس لها علاقة مع الإسلام ، ولا مع العرب ، ولا حتى مع الطوائف والأثنيات التي تحارب باسمها ، فكلها تشترك  في ممارسة الجريمة المنظمة ، وهي متناسقة ومتوافقة في الأهداف الساعية لتحقيقها ،  تحكمها خريطة طريق واحدة ، ممتدة وموزعة ،  حيث تتواجد آبار النفط ومكامنه الجيولوجية واحتياطياته ،  التي تعرفها الشركات النفطية والدول الكبرى جيداً ، والحرب الدائرة تحت شعار " مكافحة الإرهاب "  تخدم فقط تلك الأغراض التي شكلت وأُعدت  ودُربت وجلبت من أجلها تلك الجماعات ، بكل مسمياتها وعلى امتداد خارطة الطريق النفطي وخطوط نقل وتبييض الأموال القذرة ،  وزراعة وتوزيع ونقل المخدرات والأفيون ، واستغلالها كقوى ابتزاز اجتماعي وسياسي في المنطقة لتوفير المال الداعم لها من أنظمة نفطية معينة مقابل وقف وامتداد نشاطها الإرهابي ، حيث تستخدم هذا الجماعات في وسيلتين أساسيتين :

الأُولى : كقوى إرهاب وإجرام لتنفيذ ما يطلب منها ، وفي أي بلد يطلب تهديده ، أو وقف أنشطتها هناك مقابل دفع مال معين من هذا البلد أو ذاك بما فيها دول أوربية وأفريقية ، حيث تتسع خارطة توزيع المجموعات الإرهابية بفضل الدعم اللوجستي الكبير ، الذي يضمن لها حرية الانتقال والحماية وحتى توفير الحصانة والحماية ومنع اعتقالها ومحاكمة قادتها ، خاصة تلك المجموعات الموضوعة والمصنفة ضمن قوائم ما يسمى " شركات الحماية " الدولية أو المليشيات التي وجدت من يسهل لها ويشرع لها امكانيات وفرص الاندماج في الجيوش ومنظمات الأمن وقوات وزارات الداخلية ؟.

الثانية : جندت الدول الكبرى هذه الظاهرة لتوريد السلاح وبيعه والحصول على أموال طائلة تحت الابتزاز بحجة " الحرب على الإرهاب " ومنع الحرب الأهلية وإشعال سعير الحرب الباردة ، ورفع فواتير التسلح بأرقام باتت خيالية وصلت مئات المليارات لصالح تجارة وريع المجمعات الصناعية الحربية الدولية الكبرى ، وخاصة برفع حالة التوتر والصِدام بين إيران والسعودية ودول الخليج وبقية الدول العربية  .

بسقوط دولة الخرافة الامبريالية ،  أولاً ، والإسلامية ثانياً ،  " داعش "  وانتقال جداول الأعمال  إلى صالات ومناقشات المؤتمرات والاجتماعات السرية والعلنية ، ووضعها على موائد الدول الكبرى ،  يجري الحوار الحقيقي هناك ،  لتقسيم الغنائم والمغانم ، من خلال المفاوضات السرية ، ومنها في العلن وبوقاحة متناهية ،  حيث أصبحت هذه الأرقام الضخمة من أعداد المليشيات تشكل جيوشاً وفيالقاً وفرقاً عسكرية متخصصة ، وجل نسبتها الكبرى من الشباب الذي سيجد الكثير منهم طريقه إلى ملاهي البطالة ، أو الولوج في الجريمة ، لكونه اكتسب الخبرات الأمنية والقتالية ،  ولديه الاستعداد لممارسة الجريمة كلما أتيحت الفرصة له .

 إنهم أحصنة طروادة القادمين في أنشطة أخرى ، خاصة العمل على إجهاض أي عمل تحرري في بلدانهم وفي البلدان الأخرى ، وهم مستعدون أيضاً في خدمة من يدفع لهم أكثر ، كمرتزقة ،  وتوفر لهم الامتيازات التي وفرتها لهم مرحلة  " الفوضى الخلاقة " الأمريكية في المنطقة ، ووفرت لهم المناخات الملائمة للعبث والقتل والسلب والاختطاف والتمرد ، بغياب دولة القانون وفقدان الأمن والسلم  الاجتماعي في بلدان ومدن عربية  كبرى أضحت خربة تماماً .

لا يعرف أحد ،  متى تبدأ مرحلة ما يسمى  بالإعمار ، حيث تنتظر الشركات العالمية وحماياتها المحلية والدولية مرحلة النهب الجديدة ، ولا شك أن هؤلاء المرتزقة سيوظفون لاحقاً في شركات حماية تلك الشركات ،  أينما حلوا وعملوا ، لكونهم سيبقون مرتبطين بالمؤسسات الدولية والمحلية التي جندتهم ونفذت بهم أجنداتها الإجرامية والتخريبية .  

إن ظاهرة تقديم العون والدعم الدولي ، وبالتواطؤ المفضوح لهؤلاء المرتزقة بعد إتمام عملياتهم العسكرية الممسرحة ، حيث يتم نقلهم بالطائرات العسكرية والمدنية ، وتوفر لهم تغطية طرق الانسحاب والحماية ، وحتى التكفل بعوائلهم وحماية نسائهم وأطفالهم ،  تكشف للجميع مدى الرعاية التي أولتها لهم القوات الأمريكية من جهة وبالتعاون مع الحكومات الإيرانية والسورية والعراقية وحزب أو عملائها من جهة أخرى ، حيث بدا التنسيق والتعاون بشكل واضح في نقل وحماية أفراد وجماعات هذه القوى المنسحبة والمنقولة براً وجواً من مكان آخر .

حتى عمليات الانسحاب الممسرحة من المدن بعد تدميرها باتت تجارة رابحة  حيث يكسب المقابل والخصم الظاهري في مواقع الاشتباكات المموهة إعلامياً سمعة " المنتصر "  لهذا أو ذاك  ، ويوصف البعض بصفة " المنقذ " ،  وشرف تحرير واسترجاع المدن من قبضة الإرهاب في العراق وسوريا ، في حين أثبتت الوقائع والأدلة : كم هو الثمن المدفوع بمئات الملايين من الدولارات ، تدفع لهذا الطرف أو ذاك بعد كل عملية انسحاب وما يسمى " تحرير" لهذه المدينة العربية أو تلك .

الدكتور عبد الكاظم العبودي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق